«الوجه المظلم لاقتصاد السوق»، هذا هو عنوان غلاف الدورية الفرنسية «بدائل اقتصادية» الصادرة في تشرين الثاني. ملف الغلاف يتضمن مجموعة موادّ إعلامية فيها الكثير من المعطيات والتحاليل التي تتمحور حول فكرة واحدة: اقتصاد السوق هو ساحة حرب تستخدم فيه أدوات العنف للسيطرة والاستيلاء على الموارد والأرباح ليس فقط بين الدول سواء كانت متحالفة سياسياً أو متخاصمة، إنما بين الحلفاء أنفسهم، وبين الشركات في هذه الدول. الوسيلة الأكثر وضوحاً تتضمن ضرب مبدأ التنافسية الذي تزعم الرأسمالية أنه العنصر الضامن لاقتصاد السوق للاستحواذ على الحصص السوقية وحصد الأرباح. أما الغاية المكتومة فهي سياسية متّصلة بالسيطرة والاستيلاء على الموارد. في ما يلي مقتطفات من المعطيات والاستنتاجات التي وردت في المقالات المنشورة في هذا الملف ومن ضمنها مقابلة مع الباحث في معهد التفكّر في الحرب الاقتصادية علي العائدي

مبدأ التخريب
جرى اللجوء إلى مبدأ التخريب تجاه ثلاثة أطراف: الزبائن أولاً، الشركات المنافسة ثانياً وتجاه الدولة ثالثاً.
أفضل مثال على مبدأ التخريب تجاه الزبائن هو مصرف «غولدمان ساكس». فقد تبيّن لمجلس الشيوخ الأميركي في عام 2007 أن هذا المصرف يبيع منتجات مالية للزبائن لحضّهم على الثقة بارتفاع أسعار العقارات في الولايات المتحدة، بينما هو كان يراهن على انهيار أسعار العقارات. عملياً، نجح هذا المصرف في تحقيق الكثير من الأرباح على حساب الزبائن.
وهناك مثال آخر يتعلق بآليات عمل الكارتيلات من خلال تفاهمات غير قانونية بعضها مع بعض رغم أشكالها التنافسية. فكانت تحدّ من حصصها في الأسواق بهدف خفض الإنتاج ورفع الأسعار. في السنوات الأخيرة، فرضت المفوضية الأوروبية غرامات على مجموعة من الشركات التي تنتج شاحنات، المصاعد، منتجات مالية… بقيمة 5.8 مليارات يورو. منذ أكثر من 10 سنوات تتخذ السلطات العامة في أميركا وأوروبا إجراءات عقابية كثيرة لمعاقبة الكارتيلات التي تضرّ بمصالح الزبائن والمستهلكين.

التخريب ضدّ المنافسين
تقوم الشركات بشراء حقّ التحكّم بنموّ الشركات المنافسة. هذا الأمر كان يحصل في القرن التاسع عشر ومن الأمثلة عليه قيام روكفيلير بشراء الكثير من الشركات البترولية المنافسة ليبقى مهيمناً. كذلك فعلت أستور في مجال البناء، وغيرها من الشركات في مجال الحديد… في عصرنا الحالي، اكتشف فايسبوك نجاح شركات تويتر وانستغرام وسواها، فعمد إلى شرائها ليبقى مهميناً. هناك حالياً دعوى على فايسبوك أمام لجنة التجارة الفيدرالية في أميركا بتهمة شراء حقوق الهيمنة.
التخريب تجاه الدول موجود بشكل واضح أيضاً. أكثر من 40% من أرباح الشركات المتعدّدة الجنسيات يتم نقلها بشكل وهمي نحو الجنات الضريبية، وبالتالي تمارس التهريب الضريبي. اللوبي الذي تقوم به الشركات على المستوى السياسي، إن كان في الولايات المتحدة أو في بروكسل من أجل استصدار تشريعات تخفض الضرائب على هذه الشركات هو أبرز مثال على ذلك.

حرب المعلومات
العالم الاقتصادي بعكس ما يظن البعض؛ فهو ليس عالم الشفافية بل عالم الكتمان. من يحصل على المعلومة الأفضل يحصل على العقود. ومن يستطيع أن يقدم معلومات مغلوطة أو يزعزع المنافس لا يتورّع عن القيام بذلك. عملياً، السوق تحوّل إلى ساحة حرب.
في فرنسا هناك مدرسة الحرب الاقتصادية التي يديرها كريستيان هاربيلو. يقول الرجل إن قاعدة النشاط الاقتصادي ليست السعي لتدمير الآخر، لكن من الواضح أن المطلوب الإساءة له. ليس هناك شركات تعلن أن هدفها إزاحة المنافس من السوق، لكن من الواضح أنها لن تتردّد عن بثّ الشائعات وتمويل دراسات علمية مزوّرة للتشكيك في صلاحية منتجاتها. لا يتورّع المنافس عن استخدام الوسائل والأدوات لإزاحة غيره من السوق.
هناك قضية مشهورة في هذا الإطار. في عام 2005 أنتجت شركة «تيا»، وهي مختبر فرنسي، دواء لتطهير العيون أسمته «هاياباك». تعرض هذا المنتج لحملة تشكيك في صلاحيته من قبل شركة منافسة موجودة في موناكو موّلت تقارير طبية تثبت أن استخدام «هاياباك» له أعراض جانبية. وبعد ذلك جرى الترويج لهذا التقرير العلمي المزوّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأُرسل إلى مستشفيات ومراكز رعاية صحية… في النتيجة رفعت «تيا» دعوى قضائية وربحتها ضدّ الشركة المنافسة وأظهرت بطلان الادّعاءات بشأن الأعراض الجانبية.
هناك مثل آخر مهم أيضاً. شركة «أوروكوبتير»، نجحت في بيع الطائرات العمودية في عام 2007 للهند، لكن ألغي العقد بسبب شائعات ومعلومات مغلوطة عن عمليات فساد شابت هذا العقد. كان مصدر المعلومات المغلوطة في الولايات المتحدة، إنما في النتيجة فازت شركة «بيل» الأميركية بالعقد.
الحرب الاقتصادية هي استخدام العنف في الفضاء الاقتصادي من أجل فرض موازين قوى ملائمة للطرف المستخدِم لهذه الوسائل


تقديم العالم الاقتصادي على أنه فضاء للتنافس بين شركات تحترم قواعد اللعبة ليس واقعياً. في كل المجالات الاستراتيجية كالطاقة والإلكترونيات والطائرات والفضاء والدفاع والصناعات الغذائية هناك حرب.
الشركات الناشئة في سيليكون فالي المتخصّصة بشرائح اللحوم الاصطناعية (صويا ستيك)، موّلت حملات ضدّ اللحوم في أوروبا من خلال شركات إعلانية مفادها بأن اللحوم الطبيعية تسبّب السرطان وأمراضاً أخرى… كل ذلك من أجل تسويق المنتجات الاصطناعية.
وعندما نلحظ عدد الشركات الخاصة التي تعمل في مجال الحرب الاقتصادية والتي تطوّر تكنولوجيات تنصّت واختراق للداتا، يتضح أننا أمام حرب حقيقية للسيطرة على المعلومات أو لبثّ معلومات كاذبة واستخدام أدوات الحرب. هناك نمط جديد من العنف كأداة في عمل الشركات في ميدان الاقتصاد. الاقتصاد العالمي ساحة مواجهة يُستخدم فيها العنف. هي أدوات عنفية تُستخدم للسيطرة على ميدان الاقتصاد.
يقدّم مثال مكتشف فيروس السيدا نموذجاً عن ذلك. فقد اندلعت معركة على هوية المكتشف بين روبرت غالو الأميركي، ولوك مانتانييه الفرنسي. في المحصلة أدين غالو لأنه استولى على أبحاث معهد باستور الشهير. لكن قبل أن يدان غالو استفاد من ترسانة الحرب الاقتصادية الأميركية التي أمّنت له ترويجاً هائلاً عبر نشر مقالات عنه ومقابلات وسواها من المواد الإعلامية التي تولّتها شبكة المؤسسات الأميركية من مراكز أبحاث ومراكز الدوريات العلمية المتخصّصة، ومكتب شهادات المنشأ. حاولوا أن يؤكدوا أنه مكتشف الفيروس مع ما يعني ذلك من أرباح حقّقها له ولهم.
هناك مثال آخر على هذه الحرب: صفقة شراء شركة «مونسنتو» الأميركية من قبل شركة «باير» الألمانية بدعم من الحكومة الألمانية. «باير» استغلّت حقيقة أن الحكومة الفرنسية اعترضت على استخدام مادة الكليفوسات (مادة موجودة في منتجات «باير») لمنع ترويج منتجات «مونسانتو» في أوروبا، ما دفع مموّلي شركة «مونسانتو» إلى بيع الشركة للألمان بدلاً من الخسارة في السوق الأوروبية. بعد الشراء، صوّتت ألمانيا على تشريع استعمال الكليفوسات في أوروبا لخمس سنوات إضافية. جنّ جنون الأميركيين وأدانوا «مونسانتو» بتهمة تسميم الأميركيين عبر ترويج الكليفوسات.

الفساد
هناك فساد في البلدان النامية على مستوى صغير تسمح به الإدارات لتسهيل عمل نظام فاسد. لكنّ الفساد على المستوى الكبير يكمن في العلاقات بين البلدان النامية والبلدان المتطورة. فلنأخذ مثلاً قضية «إيرباص». فهذه الشركة ولمدة 15 عاماً دفعت عمولات سرية بملايين اليوروهات لعشرات الحكومات عبر وسطاء، لبيع طائرات «إيرباص» وإزاحة المنافسين. بعد تحقيق طويل، دفعت «إيرباص» غرامة تاريخية بقيمة 3.6 مليارات يورو توزّعت على بريطانيا وفرنسا وأميركا.
هناك مثال آخر يتعلق بالطائرات المقاتلة «رافال» وبالصفقة التي أجريت مع الهند. أظهر التحقيق أن هناك عمولات ضخمة مدفوعة من قبل شركات فرنسية لمسؤولين هنود من أجل إتمام الصفقة.
إذا كانت المناقصات العمومية تمثّل نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي لدول اتحاد أوروبا، فإن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تقدّر أن الخسائر الناتجة من المناقصات العامة بنتيجة الفساد ودفع العمولات تُراوح بين 10% و30% من القيمة الإجمالية لقيمة هذه الصفقات الفاسدة، أي مبلغ يُراوح بين 150 مليار يورو و450 مليار يورو سنوياً. أكثر المناطق التي تتم فيها هذه العمليات، هي: الشرق الأوسط، آسيا، المحيط الهادئ وروسيا.

علي العائدي
هو باحث في معهد التفكّر في الحرب الاقتصادية. يقول إن الحرب الاقتصادية هي استخدام وسائل غير قانونية من أجل الاحتفاظ أو الاستيلاء على أسواق. من ضمن هذه الوسائل يمكن أن نشهد عمليات قتل، كما حصل في عملية بيع الفرقاطات إلى تايوان، أو ضغوطاً تمارس على كبار المسؤولين في الشركات، وعمليات قرصنة واختراق لحسابات الشركات ومواقعها الإلكترونية.
هذه المعارك اقتصادية، لكنّ الغايات النهائية هي سياسية. هدف هذه المعارك تعزيز سيطرة الطرف الذي يخوض هذه المعارك عبر لجوئه إلى هذه الأساليب سواء أكانت دولاً أم شركات، وأن يفرض على المنافسين قواعد اللعبة التي يريدها. هو أسلوب قديم معروف منذ نشأة المدن حين بدأت بعض الشعوب بزراعة الأرض وتخزين محاصيل. فقد شهدنا حروباً للاستيلاء على هذه المحاصيل المخزّنة. لكن بعد انهيار جدار برلين شهدنا تغيّراً كبيراً على النطاق العالمي. فخلال مرحلة الحرب الباردة كانت توجّه أحياناً ضربات تحت الحزام بين الحلفاء، إنما بعد نهاية الحرب الباردة أصبحت الأولوية للدفاع عن المصالح (قانون الكونغرس الأميركي صوّت على قرار للدفاع عن المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة) وفي عام 1993 قامت الحكومة الأميركية بمطالبة الكونغرس بإعطائها المزيد من الصلاحيات لاستخدام أدوات الحرب الاقتصادية كما استخدمتها لإسقاط السوفيات.