تسمح المعطيات المحيطة بالأزمة الراهنة، الاستنتاج أنها بشكل رئيسي، كما كانت الأزمات السابقة، في عهدة الخارج، إنما في ظروف دولية وإقليمية جديدة تجعلها تختلف عن الأزمات التي سبقتها، ليس فقط لناحية الأبعاد التي تأخذها محلياً، وإنما أيضاً لناحية الدور الذي يمكن أن يلعبه الخارج في تقرير مصيرها. فالجديد هو أنّ الأزمة الحالية أتت في سياق مسلسل الأزمات التي اندلعت منذ أوائل العقد الماضي في العديد من الأقطار العربية، نتيجة لتفاعل المتغيرات الدولية والإقليمية مع أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية محلية متردية سببتها منظومات حاكمة مستبدّة سارت في ركاب العولمة النيوليبرالية المتوحشة. فبحجة مكافحة الإرهاب ونشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، أخذت الولايات المتحدة قراراً بإعادة تشكيل الشرق الأوسط على نحو يبقيه تحت سيطرتها ويجعل في الوقت نفسه الكيان الصهيوني القطب المهيمن عليه. وبنتيجة هذا القرار صارت المنطقة العربية، بخاصة بعد الانتفاضات التي شهدها العديد من دولها، ساحة لصراعات دموية عنيفة، تداخلت فيها المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، ولعب فيها الإسلام السياسي، بتلاوينه المختلفة، المعتدلة والسلفية والتكفيرية، دوراً بارزاً. وتحوّلت هذه الصراعات في عدد من الأقطار (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن) إلى حروب داخلية كارثية دمرت بناها التحتية واقتصاداتها. ومزّقت نسيجها الاجتماعي، وقسّمت كياناتها، وأبادت وشرّدت الملايين من سكانها.في هذا السياق إذن، جاءت انتفاضة 17 تشرين الأول التي فجّرت الأزمة التي كانت تعتمل في الجسم اللبناني منذ مدّة طويلة. العوامل التي كانت وراءها، هي نفسها التي كانت وراء الأزمات العربية. وكذلك كانت الأبعاد التي أخذتها هي نفسها التي أخذتها هذه الأخيرة. وبذلك تداخلت عناصر الأزمة اللبنانية بشكل عضوي مع عناصر أزمة المنطقة وأصبح مصير الأزمة الأولى يرتبط، إلى حدّ بعيد، بمصير الثانية. فمع احتدام الصراعات الدولية والإقليمية في المنطقة، خصوصاً في سوريا، وعلى أرضية اهتراء نظام الطائفية السياسية والاقتصاد غير المنتج، أخذت تشتدّ حدّة الأزمة اللبنانية بشقيها السياسي والاقتصادي. فمن جهة، أصبح حزب الله، على الصعيدين السياسي وخصوصاً العسكري، ذراع محور المقاومة الإقليمي القوي المتصدّي للكيان الإسرائيلي والنفوذ الأميركي، ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة ككل. ومن جهة ثانية، أخذ يجف الدم الذي كان يجري في عروق نموذج الاقتصاد الريعي؛ نعني التحويلات المالية والاستثمارات الخارجية والعائدات من السياحة والتصدير، لا سيما ما كان منها يأتي من أقطار الخليج العربية.
أما لناحية الأبعاد، فنلاحظ أن أزمة لبنان، كما هي الحال في معظم أقطار المنطقة، صارت تطرح من جهة، مسألة الوجهة التي سيأخذها هذا البلد على الصعيد السياسي: هل سيبقى بحدوده الحالية أم هو ذاهب نحو التقسيم أو الفيدرالية؟ أم أنه، على العكس، سيذهب في اتجاه الانخراط في نوع من الفضاء السياسي الإقليمي العابر للكيانات القائمة؟ وأين سيكون موقعه في الاصطفافات الدولية والإقليمية؟ هذا بالإضافة إلى جملة من الأسئلة الأخرى التي تتعلق بطبيعة نظام الحكم ومدى استقلالية الدولة عن المؤسسات الدينية والطائفية. أما على الصعيد الاقتصادي فتطرح الأزمة أيضاً، في لبنان كما في المنطقة، جملة من الأسئلة حول إمكانية إعادة إنتاج شكل جديد من الاقتصاد الريعي أو التحول إلى اقتصاد بديل منتج، وحول إمكانية إقامة اقتصاد قابل للحياة في الإطار القطري أو الانخراط في إطار من التشبيك/ التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة والإقليم، ثم هل من الممكن التحوّل إلى نموذج اقتصادي اجتماعي جديد من خلال الانخراط في تيار العولمة النيوليبرالية؟...
هناك أسئلة عن إمكانية إقامة اقتصاد قابل للحياة في الإطار القطري وحول إمكانية التحوّل إلى نموذج اقتصادي اجتماعي جديد من خلال الانخراط في تيار العولمة النيوليبرالية


هذه الأسئلة بخصوص الأبعاد التي تأخذها الأزمة في لبنان وفي المنطقة، تعني أن المرحلة التي يمران بها في الوقت الحاضر هي مرحلة مصيرية شبيهة بالمرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو. ما يجعلنا في ما يتعلق بأزمة لبنان الحالية نخرج بنتيجة رئيسية هي، على وجه العموم، النتيجة نفسها التي يمكن أن نخرج بها من المتابعة التاريخية التي قمنا بها لتطوّر الاجتماع اللبناني السياسي والاقتصادي الاجتماعي منذ ما قبل الاستقلال. ومفادها، أن مأزومية هذا الاجتماع ترتبط بشكل وثيق بعجز حركة التحرّر العربية عن إنجاز مهمتها التاريخية المتمثلة بالتخلص التام من الهيمنة الاستعمارية الغربية والاحتلال الصهيوني والسير على سكة التنمية الاقتصادية المستقلة والديموقراطية الاجتماعية. فهل تلوح في الأفق الآن إمكانية الخروج من هذا المأزق التاريخي؟
شهدت السنوات القليلة الماضية مستجدات سياسية واقتصادية دولية وإقليمية على غاية من الأهمية، تؤشر إلى تراجع الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأميركية وبداية انحسار نفوذها ونفوذ الغرب عموماً عن المنطقة. فالولايات المتحدة صارت تعاني من أزمة متعدّدة الجوانب: سياسية واقتصادية واجتماعية في الداخل، وفي الخارج صعود قوي لقطبين دوليين منافسين: الصين وروسيا. ما جعل همّها الرئيسي مواجهة هذه الأزمة بشقيها، ودفعها بالتالي إلى أخذ قرار بالانسحاب العسكري التدريجي من الإقليم، خصوصاً أنها اقتربت من تحقيق اكتفاء ذاتي من إنتاجها للنفط محلياً. وعلى خط موازٍ، دخل الكيان الصهيوني في أزمة وجودية؛ فمحور المقاومة، رغم الأذى البالغ الذي ألحقته العقوبات الاقتصادية بمختلف أطرافه، استطاع من جهة، أن يطوّر على نحو لافت، قدراته العسكرية والقتالية ضدّ هذا الكيان، ويفرض عليه قواعد اشتباك جديدة واستطاع من جهة ثانية، أن يتمدّد في المنطقة ويذهب بعيداً في التصدي لنفوذ الولايات المتحدة وحلفائها. وبذلك أخذت إسرائيل تفقد وظيفتها كقاعدة عسكرية يستخدمها الغرب لفرض سيطرته على المنطقة العربية. وفي الوقت نفسه، أخذ مجتمعها الاستيطاني يتفسّخ تحت وطأة التناقضات التي زادت عمقاً بين مختلف مكوناته السياسية والديموغرافية-الثقافية والمذهبية. وجاءت «هبّة» الشعب الفلسطيني الأخيرة على امتداد أرضه التاريخية مع معركة «سيف القدس» التي رافقتها، ليشكلا منعطفاً في مسار القضية الفلسطينية، أعادها إلى المسرح العربي والإقليمي والدولي كقضية تحرير وطني لفلسطين كل فلسطين، بعدما كاد اتفاق أوسلو أن يجعلها طي النسيان. ففي حال استمر تراجع الولايات المتحدة، واستمرّ محور المقاومة بشقيه الفلسطيني والإقليمي في اندفاعته، ينفتح الأفق جدياً أمام تخلّص المنطقة العربية من الكيان الصهيوني والنفوذ الأميركي والغربي عموماً. لكن إنجاز هذين الأمرين مجتمعين في حال حصوله، يشكّل الشرط الضروري، لكن غير الكافي لوضع المنطقة العربية على سكّة التخلّص من هياكلها السياسية والاقتصادية الاجتماعية العفنة. فالأمر يتطلّب وجود قوى اجتماعية سياسية وازنة تحمل همّ تحرير الأرض من جميع أشكال الهيمنة الأجنبية، بالإضافة إلى همّ بناء دول ديموقراطية قادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الاجتماعية والتعاون في ما بينها لإقامة فضاء/ نظام عربي - إقليمي جيو سياسي اقتصادي قادر على التعامل بنديّة مع بقية أجزاء العالم السائر نحو التعدّدية القطبية.
لكن ليس هنالك في الواقع الحالي ما يؤشّر إلى وصول مثل هذه القوى إلى مرحلة متقدّمة من النضوج. فالقوى الرئيسية الفلسطينية والعربية والإقليمية، التي تقود في هذه الأيام الصراع مع إسرائيل والولايات المتحدة، لا تملك رؤية واضحة ومتكاملة لمستقبل المنطقة السياسي والاقتصادي بعد التحرير. وتجاربها السياسية في الحكم وخارجه لا تؤشّر إلى أنها تعمل على تغيير نوعي على هذا الصعيد. حتى أن المنجزات التي حققتها على طريق التحرّر الوطني تبقى عرضة للمراوحة مكانها، إن لم نقل للتآكل. لأن هذه القوى لا تستند إلى جبهات داخلية صلبة.

إذا كانت الظروف الداخلية والخارجية لم تنضج بعد لعبور لبنان إلى نموذج سياسي واقتصادي اجتماعي بديل فماذا بوسع القوى المحلية الساعية إلى التغيير أن تعمل؟

فبمجتمعاتها تعاني من انقسامات اجتماعية حادة، طائفية و/أو قومية/ إثنية، وفوارق طبقية نافرة، بالإضافة إلى تفشّي الفساد على نطاق واسع في أوساط النخب السياسية والاقتصادية، وتدهور الأوضاع المعيشية لأكثرية المواطنين. وهذه المشاكل لا تستطيع القوى المعنية أن تبقى بمنأى عن تحمل مسؤولية معالجتها. كذلك، فإن تراجع الولايات المتحدة لا يعني أن دورها في الإقليم لم يعد محورياً. فحضورها العسكري فيه لا يزال قوياً، والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها أثبتت فاعليتها، كما أن حلفاءها المحليين ما زالوا على جانب لا يستهان به من التأثير والقوّة. فإسرائيل لم تتوقف لا عن تنفيذ مخططاتها داخل الأراضي الفلسطينية ولا عن اعتداءاتها المتكررة على سوريا وإيران. أضف إلى ذلك دخول أطراف دولية وإقليمية أخرى (الصين وروسيا وتركيا وبعض الدول الأوروبية) بقوّة إلى حلبة الصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة. ولكل من هذه القوى مصالحه الخاصة التي تتقاطع أحياناً وتتصادم أحياناً أخرى مع مصالح هذا أو ذاك من الأطراف الأخرى بما فيها قوى محور المقاومة. هذا في حين لا يزال للمشرق العربي أهميته الجيوسياسية الخاصة. والتراجع النسبي لأهمية موارده من النفط الخام لم يقلّل من أهميته الاقتصادية. فقد صار ساحله المطل على المتوسط يُعتبر من أضخم خزانات الغاز الطبيعي في العالم وصار في الوقت نفسه معبراً رئيسياً لأنابيب النفط والغاز الطبيعي إلى أوروبا وحلقة رئيسية في مشروع الحزام والطريق الصيني.
هذه المعطيات بمجملها تجعل من غير المتوقع لأزمة لبنان الحالية، التي هي جزء لا يتجزأ من أزمة المنطقة، أن تنتهي في المدى المنظور إلى تغيير جذري للنظام القائم. كما تجعل من غير المتوقع أيضاً أن تنتهي قريباً هذه الأزمة، كما انتهت إليه الحرب الأهلية، بتسوية ترعاها تفاهمات دولية وإقليمية تنقل لبنان إلى جمهورية ثالثة تعيد إنتاج النظام نفسه بحلّة جديدة. لأن موازين القوى بين الأطراف المتصارعة في المنطقة كما هو واضح لم ترسُ بعد على حالة من الاستقرار. وما يمكن توقعه، في أحسن الأحوال، والحال هذه، هو حدوث تسويات موضعية عابرة بين القوى المتصارعة الرئيسية في هذا البلد أو ذاك من بلدان الإقليم، تسمح بالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف على أمل التمكن من فرض قواعد اشتباك جديدة مع الخصم. وإذا كان من تسوية في لبنان في المدى القريب فسوف لا تخرج من هذا الإطار. وهدفها الرئيسي سيكون، على الأرجح، تشكيل حكومة جديدة تستطيع الحصول على مساعدات خارجية بما يكفي لمنع الانهيار الشامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية درءاً لدخول البلد في فوضى عارمة واضطراب أمني إن لم نقل احتراب أهلي. وهذا ما تعمل على تحقيقه أوساط غربية بخاصة فرنسا. فالانهيار سيتسبب على ما ترى هذه الأوساط، بإحكام حزب الله سيطرته على لبنان وهجرة كثيفة إلى البلدان الأوروبية مع ما يمكن أن ينتج من هذه الهجرة موجات إرهاب تجتاح هذه البلدان من جديد. وللحكومة العتيدة أيضاً مهمة أخرى وهي الإشراف على تنظيم انتخابات نيابية وبعدها انتخابات رئاسية يُراهن على أن نتائجهما ستؤدي إلى تحجيم قوة حزب الله وإزاحته عن المسرحين اللبناني والإقليمي. لكن هنالك أوساط أخرى لا سيما في الولايات المتحدة والخليج ترى العكس. أي إن ترك الوضع في لبنان يذهب إلى الانهيار الشامل والفوضى العارمة هو الذي سيؤدّي في نهاية الأمر إلى استنزاف قوّة حزب الله وإخراجه من دائرة التأثير محلياً وإقليمياً. وعلى ما يبدو فإن الاتجاه الغالب في الوقت الحاضر هو إلى الأخذ بالرؤية الأولى. لكن في حال فشلت محاولة التوصل إلى تجديد الاتفاق النووي وفشلت معها المحاولات الجارية لتبريد بؤر الصراع في المنطقة، يكون من المرجح العودة إلى الأخذ بالرؤية الثانية. عندها يصبح من غير المستبعد نشوب حرب إقليمية ينتج منها خريطة جديدة للمنطقة. ولا يمكن منذ الآن التنبؤ لا بما ستكون عليه معالم هذه الخريطة ولا بما يمكن أن يكون عليه موقع ووضع لبنان فيها. فذلك يتوقف على ما ستسفر عنه الحرب من موازين قوى جديدة بين الأطراف المعنية.
إذا كانت الظروف الداخلية والخارجية لم تنضج بعد لعبور لبنان إلى نموذج سياسي واقتصادي اجتماعي بديل للنظام الحالي المتهاوي وأن الغلبة بالتالي ستكون في المدى المنظور وفي أحسن الأحوال للقوى التي تعمل على ترميمه، فماذا بوسع القوى المحلية الساعية إلى التغيير المنشود أن تعمله والحال هذه؟
طبعاً ليس المطلوب من هذه القوى أن تبقى مكتوفة الأيدي، في انتظار نضوج الظروف الدولية والإقليمية التي تتيح التغيير. فالمفترض أن تسارع منذ الآن إلى بلورة برنامج متكامل للتغيير المنشود، لا ينفصل فيه البعد الوطني المقاوم لإسرائيل والإمبريالية عن الأبعاد السياسية والاقتصادية و الاجتماعية، ثم تكثيف الجهود من أجل حشد أوسع تحالف وطني وشعبي حول هذا البرنامج بهدف خوض نضال طويل النفس وبمختلف الأشكال، لفرض أكبر قدر من التنازلات على مراكز القوى السياسية والاقتصادية العاملة على ترميم النظام. وعلى خط موازٍ، على قوى التغيير أن تعمل أيضاً، مع نظيراتها في المنطقة العربية، على إقامة إطار جبهوي للنضال المشترك من أجل تحقيق التغيير المنشود على مستوى المنطقة ككل.

* أستاذ وباحث في الاقتصاد السياسي

اقرأ دراسة «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفيّة السياسيّة والاقتصاد غير المُنتج» هنا.