بحسب إحصاءات الأمن العام اللبناني، بلغ عدد جوازات السفر المصدرة من مطلع عام 2021 ولغاية نهاية آب نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020، أي بزيادة نسبتها 82%. ومن الدّلالات المهمة أيضاً أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمنياً، أي فئة العشر سنوات والخمس سنوات على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمني مثل فئة السنة الواحدة وفئة الثلاث سنوات.ففي منتصف عام 2018 صدر قانون الموازنة الذي يتيح للأمن العام اللبناني إصدار جوازات سفر تمتد لعشر سنوات. إلا أنه رغم ذلك، لم يسجّل طلباً كثيفاً على هذه الفئة، بل بقيت حصّة الجوازات من فئة السنة الواحدة هي الطاغية، إذ بلغت حصّتها من مجموع الجوازات المصدرة لغاية نهاية آب 2018 نحو 60% مقارنة مع 0.9% لفئة العشر سنوات.
وفي عام 2019 بدأت تنخفض حصّة الفئة الزمنية الأقصر (سنة واحدة) في مقابل ازدياد الطلب على الفئات ذات المدى الزمني الأطول. واستمر هذا المنحى إلى أن تراجعت حصّة فئة السنة الواحدة إلى 7% في نهاية آب 2021 مقابل 31% لفئة العشر سنوات و30٪ لفئة الخمس سنوات.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الفئات الزمنية لجوازات السفر مرتبطة بجذور الوضع الاقتصادي والاجتماعي. لم يكن هناك طلب كبير على الفئات ذات المدى الزمني الأطول لأن المجتمع اللبناني كان منخرطاً في النمط الاستهلاكي السريع المدعوم بسعر صرف ثابت. هذا الأمر أتاح له السفر إلى الخارج سنوياً وبكلفة متدنية وبعضها مموّل عبر الاقتراض. لذا، كان الخيار الأمثل إصدار جواز سفر رخيص لمدة سنة واحدة أو ثلاث سنوات وهي مدّة كافية لتغطية الهدف الترفيهي. بينما إصدار جواز سفر لمدة زمنية طويلة مثل الخمس سنوات أو العشر سنوات، وبكلفة أعلى نسبياً، لا يتلاءم مع هذا النمط ويزيد كلفة الترفيه على الطبقات الوسطى والشرائح القريبة منها. فالحصول على جواز سفر ذو صلاحية أطول يرتبط بشرائح أكثر قدرة أو هي أصلاً مغتربة، أو لديها رغبة في الهجرة. حالياً، يغلب هدف الهجرة على الأهداف الأخرى بسبب الأزمة التي بدأت تداعياتها تصبح كارثية على الحاضر والمستقبل. القلق من تفشي البطالة وانخفاض القدرة الشرائية بعد انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار واحتمالات انتشار العنف هي العوامل التي تحفّز الرغبة في الهجرة وترجمتها في جوازات السفر ذات الصلاحية الزمنية الأطول.
تدهور نوعية الحياة أمر مقلق جداً. هناك مريض اضطر أن يتعامل مع أربعة أطباء سرطان مختلفين هاجروا جميعاً في أوقات مختلفة. انقطاع الأدوية من السوق ليس حدثاً عابراً.
تدني مستويات التغذية بالتيار الكهربائي من مؤسسة كهرباء لبنان ومن مولدات الأحياء معاً إلى حدود العتمة. تقنين البنزين والوقوف طوابير طويلة للحصول على كمية تكفي بضعة أيام للانتقال من المنزل إلى العمل. تقطع الاتصالات والانترنت. انقطاع المياه. نشوء أسواق سوداء لكل شيء، خسارة الوظيفة، خسارة القوة الشرائية… كل ذلك يحفّز الرغبة في الهجرة بحثاً عن مناطق عيش أكثر استقراراً وفيها وظائف ذات دخل معقول وخدمات عامة متواصلة.
ارتفاع الطلب على الجوازات بدأ يظهر في 2021 لأنه في السنة السابقة كان هناك مانعاً أساسياً من الهجرة يتعلق بجائحة انتشار كورونا وإقفال العديد من البلدان، فضلاً عن أن تسارع الأزمة بدأ يصبح أكثر وضوحاً بعد انفجار آب 2020، وعدم قدرة السلطة على تشكيل حكومة ما أغلق طاقة الأمل بأن الإنقاذ سيكون وشيكاً ومعه اتّضح أكثر أن مستقبل لبنان بلا أفق. البحث عن فرص ارتقاء اجتماعي خارج تداعيات الأزمة اللبنانية التي توقع لها البنك الدولي أن تستمر لما يزيد عن عقد أو حتى عقدين من الزمن، هو البديل.
إن الهجرة بحثاً عن عمل أو عن استقرار سياسي واجتماعي كانت إحدى أهم سمات تاريخ إنشاء لبنان. يقول أسعد الأتات (ملحق رأس المال ــ الاثنين 14 كانون الثاني 2019) إن التقديرات حول أعداد المهاجرين بعد عام 1975 تقاطعت بغالبيتها عند رقم 900 ألف مهاجر خلال السنوات المُمتدة بين عامي 1975 و1990، علماً بأن دراسة العيّنة التي أجراها الدكتور أنيس أبي فرح (السكان والبطالة والهجرة في لبنان، 1982-2001، منشورات الجامعة اللبنانية، 2005)، تشير إلى 729 ألف مهاجر للفترة المُمتدة بين عامي 1975 و1994، ودراسة الدكتور شوهيغ كاسباريان تشير إلى أن 600 ألف مهاجر بين عامي 1992 و2007. أما في الفترة الممتدة بين 2008 و2017 فيقدّر أن يكون العدد 210 آلاف مهاجر. إذاً، كيف سيكون نزف الهجرة في مرحلة 2017 ــ نهاية الأزمة؟ ثمة توقعات تشير إلى مليون شخص غالبيتهم من ذوي الكفاءات العلمية والخبرات المهنية.




تابع «رأس المال» على إنستاغرام