في ظلّ تعمّق الانهيار الاقتصادي اللبناني، يجب مقاربة الأزمة بحقيقتها: أزمة تفتت منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. لا يجوز بعد اليوم، القبول بمنطق أنّ الأزمة اقتصادية بحتة، أو أنها تتعلق بمشاكل قطاعيّة أو استثماريّة أو بظروف موضعيّة. بات واضحاً أن تفتّت هذه المنظومة حاصل لا محالة. هي قائمة على ثلاثة أضلاع: رأس المال الغربي، وكلاؤه اللبنانيون والطوائف اللبنانية. لا بوادر لترميمها بعدما فقدت الضلع الأساسي فيها: رأس المال الغربي. في الواقع، إن توقّف تدفق رأس المال الغربي نحو لبنان له أسباب موضوعية تتعلق بهشاشة البنية الاقتصادية وتكريس مساوئها بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. سبق أن وصل لبنان إلى حافة الانهيار في عام 2002. يومها تدخّل الغرب عبر مؤتمرات باريس (1و2و3)، وضخّ ما يكفي من رأس المال لتستمر المنظومة، إلا أن لاحت بوادر الأزمة الحالية في عام 2016. أمّا اليوم فلا يبدو أنّ هناك، في الغرب أو الخليج، من يرغب بمدّ لبنان برأس مال غير مشروط لإعادة إحياء منظومة اقتصاده السياسي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

بناءً على ذلك، فإن إعادة تشكيل منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني عملية لا بدّ منها. إلا أنه في ظل تسارع الأحداث وتزاحم الأزمات المعيشية، يغيب السؤال الأساسي: كيف يعاد تشكيل هذه المنظومة؟ هل يتم ذلك عبر عملية عشوائية تتحكم بها القوى التي ستحتفظ، بعد اكتمال الانهيار، بهيمنتها على الأطر الجماعاتية والسوقيّة؟ أم أن العملية ستتم بشكل ممنهج عبر اتفاق بين القوى السياسية والطائفية المختلفة يسبق التفتت الكامل؟ الإجابة ستحدّد أي القوى السياسية اللبنانية الأساسية ستشترك في إعادة تشكيل المنظومة. لذا، يمكن تقدير أيّ من السمات التي تطبع علاقات القوى السياسية بالمنظومة، ستُضمّن في عملية إعادة التشكيل؛ يمكن تقسيم القوى السياسية اللبنانية، المؤثّرة منذ بداية الحرب الأهلية إلى اليوم، إلى ثلاث فئات ذات معالم واضحة: فئة الوكلاء المستثمرين، فئة شركاء الدولة وفئة العاملين من خارج المنظومة.

البنية الفوقية
فئة الوكلاء المستثمرين كانت الفئة الغالبة على الحياة السياسية اللبنانية قبل الحرب الأهلية. لكنّها اضطرت إلى تقاسم العمل السياسي مع قوى صاعدة أخرى ظهرت خلال الحرب الأهلية وما بعدها. وما بعد انتهاء الحرب الأهلية، عملت القوى الممثلة لهذه الفئة تحت مظلة رفيق الحريري، لتشكّل ما بات يُعرف بالحريرية السياسية. لا بدّ من الإشارة الى أن الحريرية السياسية احتلّت موقع البنية الفوقية أو الكليّة لمنظومة الاقتصاد السياسي ما بعد الحرب. ويمكن تلمّس علاقة الحريرية السياسية بالمنظومة من خلال تتبع مسار رفيق الحريري منذ دخوله إلى الحياة السياسية اللبنانية، ممثلاً للعائلة السعودية الحاكمة، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. فقد عمل الحريري منذ البداية على خطين متوازيين، كما يقول نجيب حوراني في ورقته البحثية «صراع رأسماليين: إعادة النظر في الحرب الأهلية»؛
الخطّ الأول، هو بناء جهاز مؤسساتي لبناء قاعدة دعم شعبي ومحسوبية، عبر تغطية فواتير الاستشفاء للفقراء وتقديم المنح الدراسية للطلاب اللبنانيين وتمويل مروحة واسعة من الأعمال الخيرية.
أمّا الخط الثاني، فهو التمويل والاستثمار في شبكات الميليشيات المالية والاقتصادية من جهة، والتوسع في القطاع المصرفي عبر رأس المال السعودي.
وفي فترة ما بعد الحرب الأهلية، كان جدول أعمال رفيق الحريري طبقياً إلى حد كبير، كما يشير هانس باومان في بحثه «الاحتجاج الاجتماعي والاقتصاد السياسي للطائفية في لبنان». فقد كان الحريري يدفع بمخططات متعدّدة في الأسواق المالية وقطاع البناء، مصمَّمة لتوليد أعمال تجارية مربحة له ولغيره من المستثمرين اللبنانيين والخليجيين الأثرياء. في سبيل ذلك، سخّر آليات عمل الدولة اللبنانية، فاستهدف احتكار الوزارات الاقتصادية والمؤسّسات التنفيذية مثل مجلس الإنماء والإعمار. وفي غضون ذلك، كان قادة الميليشيات السابقون يستخدمون «الوزارات الخدمية» مثل الصحة أو الشؤون الاجتماعية وغيرهما كمصادر لتقديم الرعاية لأنصارهم. وكانت الصناديق المستقلّة أداة أساسية في عملية انتزاع حصّة من أرباح الحريرية السياسية لمصلحة زعماء الميليشيات السابقين، وإعادة توزيع القليل مما يتبقى على أنصارهم.
ويمكن تلخيص الدور الذي لعبته الحريرية السياسية، في البنية الفوقية لمنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، بالمحافظة على دور وكلاء رأس المال الغربي في المنظومة وترسيخه وتوسيعه عبر خلق احتكارات عقارية ومالية جديدة. وفي الوقت نفسه أضفت الحريرية السياسية على المنظومة روحاً نيوليبرالية، ساهمت في ترسيخ غياب الدولة عن تأدية وظائفها الاجتماعية والرعائية.

البنية التحتية
في مقابل البنية الفوقية للمنظومة، شكّلت القوى التي خاضت القتال في الحرب الأهلية اللبنانية البنية التحتية لهذه المنظومة. فمنذ بداية الحرب بدأت هذه القوى (ومعظمها كان مهمّشاً أو غير ذي تأثير كبير في الحياة السياسية اللبنانية قبل الحرب) بفرض تأثيرها على منظومة الاقتصاد السياسي - نتحدث هنا بشكل أساسي عن الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وحركة أمل والتنظيم الشعبي الناصري والمردة. كان الاجتياح الإسرائيلي محورياً في تضخيم حجم دور الميليشيات في المنظومة. وبحسب تقسيم إليزابيث بيكارد في بحثها «الاقتصاد السياسي للحرب الأهلية اللبنانية»، فإن علاقة الميليشيات بالمنظومة تتوزّع على 4 محاور أساسية؛
- المحور الأول: استيلاء الميليشيات على وظائف الدولة وتحقيق مكاسب منها. الميليشيات استولت على الخدمات الأساسية مثل تأمين الكهرباء والماء. بالإضافة إلى خصخصة الخدمات البحرية عبر إنشاء موانئ خاصة خارج سيطرة الدولة، والدخول على خط الاحتكارات الأساسية كاستيراد النفط والغاز عبر تأسيس شركات خاصة، أو استيراد الدخان عبر إجبار مؤسسة الريجي على وضع ضريبة إضافية تُوزّع على الميليشيات. وما يميّز عملية الاستيلاء هذه هو أن الميليشيات بدأت بجباية الضرائب (بشكل مباشر أو على شكل خوّات) على هذه الخدمات بالإضافة إلى التربح مباشرة من الاحتكارات.
ثلاث فئات تملك علاقة تفاعلية حقيقية مع منظومة الاقتصاد السياسي والصراع بينها سيحدّد من يضع بصمته على شكل المنظومة الجديدة


- المحور الثاني: مشاركة الدولة في احتكار استخدام العنف لتحقيق الأمن. أضافت الميليشيات إلى ضرائبها ثمن تأمين الأمان للقاطنين في مناطق سيطرتها.
- المحور الثالث: التحوّل التدريجي للاقتصاد إلى اقتصاد أسود، أي خارج الأطر الرسمية للدولة اللبنانية سواء بسبب الأعمال الجرمية التي رافقت الاستيلاء على مرافق خاصة أو بسبب افتتاح أعمال جديدة في ظل سيطرة الميليشيات.
- المحور الرابع: تورّط الميليشيات في المضاربات المالية، سواء عبر شراكاتها مع المصارف الموجودة أو حماية تأسيس مصارف جديدة برعاية الميليشيات، وذلك لاستثمار الأموال التي راكمتها في المضاربات التي كان يقوم بها القطاع المصرفي بشكل عام.
هنا يظهر أن علاقة هذه الميليشيات بالمنظومة كانت معقّدة، وتشتمل على علاقة تشاركية مع الدولة ومع القوى الاقتصادية المؤثرة تقليدياً. بقيت الدولة بإدارتها المركزية ومؤسساتها الوطنية وسيادتها أصلاً ومصلحة، بحسب بيكارد. استفادت الميليشيات من تكاملها مع اقتصاد الدولة أكثر مما كان يمكن أن تستفيد لو دمّرتها واستبدلتها، حتى أصبحت تؤمن دخلاً لثلث عدد المقيمين في لبنان بحلول 1988. ومع انتهاء الحرب تحوّلت هذه العلاقة التشاركية إلى سمة تطبع علاقة هذه القوى مع الدولة، وخصوصاً، حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي والمردة (والقوات اللبنانية التي أقصيت في عام 1994 وعادت في عام 2005). أصبحت هذه القوى تشكل البنية التحتية لمنظومة الاقتصاد السياسي، وتستغلّ نسق الإنفاق الحكومي المتوسع (الذي سنّه أمين الجميل ورسّخه رفيق الحريري) لترسيخ علاقتها التشاركية مع الدولة واستغلالها للمحافظة على الامتيازات الربحية ونموذج المحسوبية الرعائية، وهذا الأخير يضمن إعادة توزيع غير عادلة للتراكم الرأسمالي.

الرعاية الاجتماعية المقنّنة
آخر الفئات المؤثرة في مستقبل منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني هي فئة العاملين من خارج المنظومة. أثناء رسمها «لطوبوغرافيا» القوى المشاركة في الحرب الأهلية اللبنانية، توصّف بيكارد حزب الله بـ«جمهورية الرعاية الاجتماعية الإسلامية». ضمن هذا السياق ترى أن النمو السريع لشرعية الحزب داخل بيئته خلال الحرب الأهلية، كان بسبب توسّع أنشطته الخيرية والطبية والتعليمية. وتضيف أنّ الحزب التزم النأي بنفسه عن الدولة كوسيلة لتعزيز استقلاليته التنظيمية وشرعيته الشعبية. فقد أسّس فروعاً محليّة للعديد من المؤسّسات الإيرانية التي تم تأسيسها خلال الحرب الإيرانية العراقية. وجرى تباعاً تأسيس مجموعة من المؤسسات تُعنى بالجرحى وعوائل الشهداء، ومؤسسات صحيّة، ومؤسسات دعم الخدمات الاجتماعية، ومؤسسات تربوية، وأخرى تُعنى بإعادة الإعمار وتقديم الدعم الزراعي. تركّز عمل هذه المؤسسات في المناطق المحرومة في البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت بداية، ثم تمدّد إلى الجنوب. لم يجد الحزب صعوبة في ترسيخ هيمنته في مناطق كانت الدولة غائبة عنها تماماً منذ عام 1983.
تضيف بيكارد، إن الحزب أظهر قدرة عالية على التكيّف مع تحديات فترة ما بعد اتفاق الطائف. فأظهر قدرة على المحافظة على مسافة بعيدة عن منظومة الاقتصاد السياسي، واستمرت مؤسّساته الاجتماعية بتأدية وظائفها بشكل أكثر فعالية من الحكومة اللبنانية في المناطق التي تنتشر فيها تلك المؤسسات. وفي دراسة بعنوان «حزب الله: بين الإسلام والمجتمع السياسي»، يميّز عمر بورتولاتزي، الحزب عن باقي القوى التي واصلت تقديم الرعاية بعد انتهاء الحرب الأهلية عبر «التمويل». فبينما استعانت القوى الأخرى بالدولة لتمول إنفاقها الاجتماعي، استعان حزب الله بالتمويل الإيراني حصراً. ويضيف بأن ديناميكيات النيوليبرالية اللبنانية لعبت دوراً أساسياً في ترسيخ شعبية الحزب. فالدولة اللبنانية الهشّة لا تدعم فكرة المصلحة العامة (هنا يجب أن نضيف أنّ هذا هو الواقع من نشوء الكيان)، وهذا يعني الخلفية التي تأسّس عليها الحزب واتّباعه نموذجاً يقدّم شكلاً موحّداً من الرعاية ويولّد اعتقاداً راسخاً لدى مؤيديه بأنّه ينفّذ مهمة سياسية واجتماعية أخلاقية.
حافظ الحزب على مسافة بينه وبين منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، حتى بعد نهاية الحرب الأهلية وبعد دخوله إلى السلطة التنفيذية عام 2005. وبقي يطبّق نموذجه الرعائي حيث تغيب الدولة اللبنانية وعبر المؤسسات التابعة له، من دون أن يحاول أن يفرض نقل النموذج إلى منظومة الاقتصاد السياسي من ضمن وجوده داخل الدولة اللبنانية في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
اليوم هذه الفئات، بالإضافة إلى التيار الوطني الحر - الذي يبدو أنّه مشتت بين الفئات الثلاث - تشتمل على القوى التي تملك علاقة تفاعلية حقيقية مع منظومة الاقتصاد السياسي. الصراع بين هذه الفئات اليوم سيحدّد من سيتمكن من أن يضع بصمته على شكل المنظومة الجديدة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام