«لا يهم إذا كانت القطّة سوداء أو بيضاء، ما دامت تصطاد الفئران»
دينغ هسياوبنغ


في الثلاثين سنة الماضية شاع بين الدول المتقدّمة والنامية، على حدّ سواء، ما مفاده أن كل شيء على ما يرام ما دام الاقتصاد ينمو، بغضّ النظر عمّا يمكن أن نسمّيه «التركيبة القطاعية» للاقتصاد، أي لا يهمّ من أين يأتي النمو. وبشكل أكثر دقّة، كانت الخدمات في الدول المتقدّمة ــ خلال تلك الفترة ــ تتقدّم، والتصنيع يتراجع، ورأى البعض هذا الأمر طبيعياً، فكما ضمُرت الزراعة في القرن العشرين، ستَضْمُر الصناعة في القرن الواحد والعشرين، وبالتالي لا خوف على مستوى المعيشة والرفاهية. نَسِي منظّرو هذه التوجّه أمرين هما أساس مقتل هذه النظرية اليوم: أولاً، أن الاقتصادات، على الرغم من العولمة، هي اقتصادات للدول الوطنية (nation state). وثانياً، أن تقدّم مستوى المعيشة يحدّده تطوّر الإنتاجية، أي ما ينتجه العامل لكل ساعة عمل.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

الأمر الأول، جعل بعض الدول التي شهدت تراجعاً في قطاعها الصناعي مثل الولايات المتّحدة وبعض دول أوروبا تتراجع أمام الصين وألمانيا اللتين أصبحتا دولتين مصدِّرتين صافيتين لكل العالم. والأمر الثاني، تراجع نموّ الإنتاجية الحادّ - يبدو أنه سيصبح مُزمناً - الذي تشهده الدول الرأسمالية المتقدّمة، وأصبح اليوم يُهدّد مستوى معيشة سكّانها. أمّا في الدول اصلنامية، مثل لبنان، فقد حصل في بعضها ما يُسمّى «عكسَ التصنيع المُبكر» (premature industrialisation)، أي انتهاء التصنيع حتّى قبل بدئه أو ترسخّه. وقد ترافق ذلك مع سيطرة التفكير السائد الذي عرف بـ«توافق واشنطن»، أي الخصخصة والتحرير التجاري والمالي وما إلى هناك من «إصلاحات»، اعتُقِد أنها ستؤدّي إلى التنمية تلقائياً. وقد تبيّن الآن أن كل هذا كان مجرّد وهم.
في لبنان أيضاً، منذ نهاية الحرب حتّى الآن، حصل «عكس التصنيع»، وسادت فلسفة «لا يهمّ من أين يأتي النموّ»، وأن «الإصلاحات» من خصخصة وغيرها هي التي ستؤدّي إلى النموّ والرفاه، في ظل تقدّم الاقتصاد الريعي وسيطرته. السؤال: كيف ننتقل من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المُنتج؟ الأمر بالطبع لن يحصل بنحو أوتوماتيكي، وكذلك لن يحصل نتيجة إجراءات طفيفة مثل وضع الرسوم الجمركية الجديدة في الموازنة اليوم. بل يتطلّب الأمر أكثر من ذلك بكثير.

من الإنتاج إلى الريع
طبعاً لم يأتِ الريع بنحو طبيعي إلى لبنان، فهو ليس دولة نفطية، ولن يصبح كذلك قبل مدة طويلة، وقد لا يصبح أبداً. وأيضاً لم يأتِ الريع، خلافاً لما يظن الكثيرون، بسبب دور لبنان باعتباره «مركزاً مالياً»، فهو لم يعد كذلك.
في الواقع، أصبح اقتصاد لبنان ريعياً بسبب السياسات المالية والنقدية التي اتُّبعت بعد نهاية الحرب الأهلية. وهذا الأمر أصبح معروفاً، ولا حاجة للإطالة حوله. ولكن بشكل سريع، لقد كان لتثبيت سعر العملة وتراكم الدَّيْن العام والفوائد العالية والحاجة إلى التدفّق الدائم لرؤوس الأموال، التأثير الأساسي في تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي، فضمرت الاستثمارات في القطاعات المُنتجة والعالية الإنتاجية والتصديرية وتحوّل الاقتصاد، شيئاً فشيئاً، إلى اقتصاد تسوده القطاعات المتدنّية الإنتاجية والأجور المتدنّية، يعتمد على تصدير العمالة التي تنتج تحويلات المغتربين، ويعتمد أيضاً على السياحة والقطاعات العقارية والمالية. ولذلك، في الاقتصاد اللبناني، اليوم، لا توجد آلية تلقائية لتحوّل هذا الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد مُنتج. فالرأسمال المُسيطر هو الرأسمال المالي، ويعاني من قصر المدى أو shortermism، أي إنه لا يسعى إلى ما هو أطول وأعمق من استثمارات سريعة ومربحة. كذلك أدّى الاقتصاد الريعي إلى خلق حلقة مُفرغة من الاقتصاد الركودي من جهة، والرأسمال الفائض من جهة أخرى، في ظلّ سياسة نقدية تهدف إلى استقرار النقد، ونرى ذلك في تحوّل جزء كبير من «خزّان الادّخار» الموجود لدى المصارف إلى التجميد لدى مصرف لبنان (أكثر من 130 مليار دولار)، وإلى الاستثمار في أدوات الدَّيْن العام (نحو 34 مليار دولار) بفوائد مرتفعة.
المطلوب اتّباع سياسات تستخدم النظام الضريبي لنقل الفائض من القطاعات الريعية لتمويل القطاعات الإنتاجية


في الوقت نفسه، وعلى الرغم من درجة التعلّم العالي لدى اللبنانيين، إلّا أن هذه السياسات والبنية الريعية أدّت إلى خلق مجتمع تستحوذ أقلّية فيه على الثروة من جهة، وقوى عاملة، غير نظامية بأكثريتها، تعمل في حقول متدنّية الإنتاجية مثل القطاع العام والصحّة والتعليم والخدمات من جهة أخرى. ونتيجة هذا الاستقطاب، فإن الأقلية، اليوم، ليست نفسها الطبقة الرأسمالية الديناميكية التي ستنتج صناعات وابتكارات وتطوّر اقتصادي ينقلنا من عالم الريع إلى عالم الإنتاج، وكذلك القوى العاملة لم تعد مؤهّلة هي الأخرى، لا من ناحية المهارات ولا من ناحية الانضباط المطلوب في عالم الإنتاج.

من الريع إلى الإنتاج
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو الآتي: كيف ننتقل إلى اقتصاد آخر في ظلّ ترسّخ هذا الاقتصاد؟ بالتأكيد، الجواب ليس في ما ورد في تقرير «ماكينزي»، الذي يعدّ، في جزء منه، إعادة تدوير لأفكار «توافق واشنطن»، وفي جزء آخر لا بأس به. فهذه الأفكار بالإضافة إلى الاقتراحات المتعلّقة بمماهاة الجيل القادم من القوى العاملة مع الوظائف في الخارج، سيؤدّيان إلى تأبيد الاقتصاد الريعي لا قلبه. لهذا، نحن بحاجة إلى إجراءات جذرية على صعد عدّة، وعلى رأسها إجراءان رئيسيان:
أوّلاً، إضعاف وصولاً إلى إنهاء ما سمّاه الاقتصادي الأميركي مانكور أولسون «الائتلافات المعوّقة للنمو». فالاقتصاد الريعي في لبنان (المُعوِّق هو نفسه للنموّ والتطوّر)، أصبح محمياً من الطبقات والفئات التي ترتبط مصالحها فيه بنحو وثيق، وبالتالي لا يمكن الانتقال من الريع إلى الإنتاج إلّا بإنهاء سيطرة الأرستقراطية المالية وإنهاء الدولة الطائفية المتخلّفة أوّلاً . وطبعاً، هذا ليس بالأمر السهل، فإنهاء سيطرة ملّاك الأراضي والقوى التقليدية في المجتمع، مثلاً، يتطلّب عشرات الأعوام من الحكم الشيوعي التحديثي، أسوة بما حصل في بولونيا والصين، (يرى البعض أن المرحلة الشيوعية كانت ضرورية للانتقال إلى الرأسمالية، ولا سيّما في العديد من البلدان التي لم تكن فيها الرأسمالية متطوّرة بشكل كافٍ!).
ثانياً، هو بالإجابة عن السؤال الآتي: من أين ستأتي الموارد لبناء الاقتصاد الإنتاجي؟ فهذا الاقتصاد لن ينبثق من تلقاء نفسه، في ظلّ اقتصاد ريعي ركودي تسوده العلاقات الطبقية الاستقطابية المنحلّة. هنا تأتي مهمّة الدولة في أداء الدور الأساسي الذي لن تستطيع «الأسواق الحرّة» أن تؤديه. في هذا السياق، أدّت الدولة تاريخياً دوراً في الدول التي اعتمدت التصنيع «متأخّرة»، مثل كوريا الجنوبية والصين وروسيا، وكذلك أدّت دوراً كبيراً في الاقتصاديات الرأسمالية المتقدّمة بعد الحرب العالمية الثانية من خلال تمويل الأبحاث والتطوّر والاستثمار في المجالات ذات المخاطر العالية، وفق ما ذكرته الاقتصادية ماريانا مازوكاتو في كتابها «الدولة الريادية» (The Entrepreneurial State). وهذه الدولة الريادية مطلوب منها الآن أن تواجه «الأزمة المناخية» التي تهدِّد البشرية عبر تمويل الاستثمارات المطلوبة في «الاتفاق الأخضر الجديد» ودمجها مع التطوّر التكنولوجي في ما يُعرف بـ«الثورة الصناعية الرابعة» أو «عصر الآلة الثاني».
من هنا، يعدّ التوجّه التقشّفي في الموازنة سباحة عكس التيّار المطلوب. فالتقشّف سيؤدّي إلى تدمير ما بقي من هيكل ما يمكن أن نسمّيه «الدولة النظامية» للمرحلة الشهابية، وسيؤدّي في المقابل، إلى إبقاء الدولة المُهترئة لنظام الطائف التي تعتمد على الزبائنية السياسية والتوظيف التعاقدي والمياومي والتحاصص المذهبي بين الأحزاب الحاكمة. وهذه «الدولة» هي نقيض ما هو ضروري من أجل عملية «الانتقال». في هذا الإطار، المطلوب اليوم اتباع سياسات تؤدّي إلى نقل الفائض من القطاعات الريعية نحو تمويل القطاعات الإنتاجية باستعمال النظام الضريبي ضدّ كلّ أشكال الريع. ومن ثمّ استعمال الفائض في التحوّل نحو بنية اقتصادية جديدة. بمعنى آخر، المطلوب هو «استغلال» هذه «الإوزّة الذهبية» لمدة طويلة نسبياً، ونقل الموارد منها، تدريجاً، إلى «الدولة الريادية»، ومنها إلى «الاقتصاد الجديد».
الأسبوع الماضي، دعا رئيس الجمهورية ميشال عون خلال استقباله وفد المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى «ضرورة تحويل الاقتصاد اللبناني من ريعي إلى مُنتج». لكن لتحقيق ذلك، يتطلّب الأمر ما ليس أقل من هذه السياسات الجديدة. وفي هذا الإطار، يجب أيضاً إحداث تغيير كبير في الفكر المُسيطر في الاقتصاد، وبشكل أساسي علينا الانتقال من الإيمان المُطلق بـ«توافق واشنطن» نحو الاسترشاد بما أصبح يُعرف الآن بـ«توافق بيجينغ». وفي هذا الطريق، علينا أن ننسى مفاهيم «المبادرة الفردية» و«الاقتصاد الحرّ» التي انتهت فعلياً في لبنان، ولكن يجري استغلالها اليوم كغطاء أيديولوجي للاقتصاد الريعي فقط. بالتالي إن تمسكّنا بهذه المفاهيم، لن يؤدّي إلّا إلى الإبقاء على ما هو قائم اليوم، لأن في عملية «الانتقال» علينا أيضاً الانتقال من مثالية هذه المفاهيم إلى الواقع الذي يعكس سيطرة «الائتلافات المعوِّقة للنموّ» وهذا ما يجب إنهاؤه أولاً.