«الإنسان يعيش من الطبيعة. أي أنها جسده وعليه أن يحافظ على علاقة مستمرّة معها إذا لم يكن يريد أن يموت. القول بأن حياة الإنسان الجسدية والعقلية مرتبطة بالطبيعة يعني ببساطة أنها مرتبطة بنفسها، لأن الإنسان جزء من هذه الطبيعة»كارل ماركس

طبعاً، كل شيء في أميركا مختلف. والآن، في زمن ترامب، كل شيء مختلف جدّاً. اليوم، يعتبر اليمين الجمهوري أن كل سياسة تنحرف قليلاً إلى اليسار عن الوسطية هي اشتراكية. فبعد أن نسي الأميركيون الاشتراكية في فترة التسعينيات، وبعد هجوم 11 أيلول/ سبتمبر، تعود لتصبح هي العدو اللدود الأول لأميركا كما كانت خلال الحرب الباردة.
في خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس في شباط/ فبراير الماضي، قال ترامب: «هنا في الولايات المتّحدة نحن قلقون من الدعوات الجديدة لتبنّي الاشتراكية في بلدنا. لقد تأسّست أميركا على الحرية والاستقلالية وليس على إكراه وسيطرة وهيمنة الدولة. نحن نولد أحراراً وسنبقى أحراراً. الليلة نجدّد عزمنا على أن أميركا لن تكون أبداً بلداً اشتراكياً». طبعاً، هذه كلمات قويّة من رئيس أميركي تعوّد العالم عليه بأنه لا يُوارب في كلامه. وهي تعكس فعلاً القلق الأميركي، أو بالأحرى قلق الرأسمال الأميركي، من تقدّم الاشتراكية وأفكارها في الولايات المتّحدة منذ أن ترشّح بيرني ساندرز للرئاسة في انتخابات 2016. وينعكس هذا القلق في تعدّد جبهات الهجوم على الاشتراكية، التي تحتدم اليوم، بعد وصول أعضاء من اليسار في الحزب الديموقراطي إلى الكونغرس في انتخابات 2018، وبدء الحملة الديموقراطية لانتخابات 2020 بباقة من الطروحات اليسارية أهمّها رفع معدّلات الضرائب على الثروة والدخل العاليين.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لكن قبل خطاب حالة الاتحاد، صدر عن مجلس الاقتصاديين الاستشاريين، وهو المجلس الاقتصادي الأعلى في الولايات المتّحدة التابع للبيت الأبيض، تقرير بعنوان «أكلاف الاشتراكية». لا أحد، ربّما، يقرأ هذه التقارير بشكل كامل، ولكن هذا التقرير كان مغايراً، فهو استثنائي بعنوانه وتوقيته ومضمونه وأسلوبه، على الرغم من كونه ركيكاً إنشائياً ومضموناً. يرد في مقدّمة التقرير أنه «بالتزامن مع الذكرى المئوية الثانية لميلاد كارل ماركس، تعود الاشتراكية إلى الخطاب السياسي الأميركي. فهناك اقتراحات لسياسات يطرحها من يطلقون على أنفسهم اشتراكيين، وهي تحظى بدعم متزايد في الكونغرس وبين الكثير من الناخبين الأميركيين».
ومن الأمور الأساسية الواردة في التقرير أيضاً، هجوم عشوائي يخلط بين استحضار أشباح المجاعات الزراعية التي حصلت في بعض الدول الاشتراكية في أوقات محدّدة، وبين الوضع في فنزويلا اليوم، وبين الدول الاسكندنافية. كما يطال في سياق هجومه الأنظمة الصحّية الاجتماعية التي يطالب بها اليسار في أميركا. ويحاول أن يربط كل هذه الأمور بخيط الاشتراكية.
ملاحظة سريعة حول ربط المجاعات التي حصلت في الاتحاد السوفياتي والصين وغيرها مع الاشتراكية. حصلت هذه المجاعات (مع تضخيم في بعض أرقامها) في ظروف محدّدة ونتيجة سياسات خاطئة والتبعات المترتبة عن الانتقال الحادّ في الظروف الاجتماعية للملكيّة، وأيضاً بسبب ظروف خارجية مناخية وبيئية. في الاتحاد السوفياتي، تحديداً، حصلت أزمة الثلاثينيات في أوكرانيا نتيجة ظروف مناخية وبيئية محدّدة وأيضاً بسبب ردود الفعل على تأميم (collectivization) الزراعة، إذ قاوم بعض المزارعين والكولاكيين المزارع الحكومية والتعاونية التي أُنشئت. ولكن سرعان ما تمّ تخطّي ذلك، وحقّق الاتحاد السوفياتي نموّاً صاعقاً بين عامي 1928 و1941 نتيجة الخطط الخمسية، ففي تلك الفترة، نمت القيم المضافة في الصناعة وحتّى الاستهلاك الفردي بشكل كبير. ونما أيضاً مؤشّر القيم المضافة الزراعية من 0.79 في 1932 في خضم المجاعة إلى 1.10 في 1940 وفق المؤرّخ البريطاني روبرت آلن. وبالتالي فإنه لا يمكن، بأي شكل من الأشكال، المساواة بين الاشتراكية وهذه المجاعات.

رأسمالية البيك-آب الأميركية
بالعودة إلى المقارنة مع الدول الاسكندنافية، يحاول التقرير برهنة تفوّق الاقتصاد الأميركي الرأسمالي على الدول الاسكندنافية «الاشتراكية». ويشير إلى أن مستوى المعيشة في هذه البلدان - فنلندا والسويد والدنمارك والنروج وأيسلندا - هو «على الأقل أدنى بنحو 15% من الولايات المتّحدة». وهو ما يردّ عليه الاقتصادي الأميركي بول كروغمان بملاحظتين: أوّلاً، إن توزيع الدخل أفضل في الدول الاسكندنافية، وهو يجعل دخل جزء كبير من الأسر في هذه البلدان أفضل حالاً من الأسر في الولايات المتّحدة، كما أن هؤلاء يحصلون على منافع عينية مهمّة جدّاً مثل التعليم والصحّة بشكل مجاني، بينما يعاني أقرانهم في الولايات المتّحدة من عدم الحصول على التعليم والصحّة بشكل كافٍ. ثانياً، صحيح أن الدخل أو الناتج الأميركي للفرد أعلى، ولكن ذلك لا يعكس بالضرورة تفوّق أميركا، بل إن الاسكندنافيين يعملون طواعية ساعات أقل ويحصلون على عطل أطول من أقرانهم الأميركيين الذي يعانون من اقتصاد من دون عطل.
إلّا أن محاولة تأكيد تفوّق الاقتصاد الأميركي لا تقف عند هذا الحدّ، بل يذهب التقرير إلى مقارنة أقل ما يمكن القول عنها إنها سوريالية بالفعل. إذ يقارن بين دخل الفرد في هذه الدول، وبين دخل المتحدّرين من أصول إسكندنافية في الولايات المتّحدة نسبة إلى معدّل الدخل في أميركا، للقول بأن الأميركيين المتحدّرين من أصول إسكندنافية دخلهم أعلى بكثير من أقرانهم في دولهم الأم! طبعاً، هذه المقارنة، كما أكّد البعض، لا تصح، بل ومُضحكة (وربّما لم يفكّر بها أحد قبل جهابذة الاقتصاد في إدارة ترامب).
كذلك يأخذ التقرير انحداراً جديداً. بهدف التأكيد على إنتاجية وديناميكية الاقتصاد الأميركي، يقدّم التقرير معطيات حول كلفة ملكية سيّارة البيك-آب في الولايات المتّحدة بالمقارنة مع كلفتها في الدول الاسكندنافية. وبالطبع، ومن دون مفاجآت، يجد التقرير أن الكلفة أدنى في أميركا! في هذا الإطار، إذا أردنا أن نناقش بجدّية هذه المقارنة، فمن المؤكّد أن طبيعة اقتصاد الاسكندنافيين ونظم مواصلاتهم وطبيعة بلادهم تجعل هذه الكلفة أعلى ولكن غير مهمّة في الوقت نفسه. كما أنها تعكس رغبة تلك الدول في التخلّص من هذه المركبات، إذ تعتزم الدنمارك مثلاً، وقف مبيع السيّارات الجديدة التي تعتمد على الطاقة الإحفورية بدءاً من عام 2030. ولكن من نظرية البيك-آب هذه، يمكننا أن نستنبط أمرين هما في صلب العداء الأميركي المُتجدّد للاشتراكية: أولاً، العداء للبيئة ومشاريع الحفاظ عليها. وثانياً، عداء الريف الأميركي (المستخدِم الأكبر للبيك-آب) للنخب العولمية (globalists).

الاشتراكية الخضراء
الاشتراكية التي يخاف منها اليمين الأميركي حالياً، هي اشتراكية «العقد الأخضر الجديد» (Green New Deal)، وهو العقد الذي طرحه اليسار في أميركا كخطّة اقتصادية من أجل حلّ معضلة التغيُّر المناخي، وفي الوقت نفسه، إعادة الحيوية إلى الاقتصاد الأميركي عبر تحفيز التكنولوجيات الخضراء الحديثة، وإعادة هيكلة الاقتصاد نحو إنشاء قطاعات خضراء و«تخضير» قطاعات أخرى. هذا العقد الجديد يحاربه الجمهوريون بشراسة لأنه يُذَكِّر أوّلاً، بالعقد الجديد لفرانكلين روزفلت، وثانياً، لأنه يتطلّب وضع ضرائب أعلى على ثروة ودخل الأثرياء وعلى الرأسمال. لكنهم أيضاً يدّعون أنهم يحاربونه لأنه سيأتي لتغيير طرق الإنتاج الحيواني الضخم في الولايات المتّحدة، والذي يعتبر من أكبر مسبّبي انبعاث الغازات الحرارية.

ضد العولميين
هنا تلعب ما يمكن أن نسمّيها «رأسمالية الريف الأميركي»، وهي الشكل الأميركي للفاشية ربّما، والشكل الأميركي للبروليتاريا الرثّة، دورها في هذه الحرب الجديدة ضد الاشتراكية. فهي ليست فقط ضد «العقد الجديد» بل تتمظهر في خطاب معاد ضد «العولميين»، أو النُخب التي نظّرت، ولا تزال تنظّر للعولمة، واستفادت منها طبعاً. فالكثير ممن يعملون في وادي السيليكون، مثلاً، على الرغم من أنهم من أغنى سكّان الولايات المتّحدة، لديهم أفكار تقدّمية أو تغييرية وحتّى في أحيان اشتراكية. طبعاً، إن من يعمل على تخوم التطوّر التكنولوجي، ويرى أن الرأسمالية الأميركية تصبح أكثر وأكثر أقلوية، ويسيطر عليها أصحاب الثروات الموروثة، وتفقد قدرتها على التطوّر، وتُوصل إلى الحكم من لا يهتمّون بالتغيّر المناخي ويعادون الأجانب والهجرة، لا بد أن يُكَوّن أفكاراً مغايرة عن تلك التي يحملها اليمين الجمهوري، اليوم، الذي يحاول أن يكون بطل الرجل العادي الأميركي، أو جو سيكس باك، في مواجهة هؤلاء النخبويين المُفَضِّلين للطبيعة والأجانب والعولمة على حساب مواطني بلدهم.
في تعليق على مشاريع «العقد الأخضر الجديد» يقول سيباستيان غوركا، وهو أحد مسؤولي البيت الأبيض السابقين، للأميركيين «يريدون أن يأخذوا منكم البيك-آب، وأن يعيدوا بناء منازلكم. يريدون أن يأخذوا منكم الهامبرغر. لقد حلم ستالين بذلك ولكنّه لم يستطع». وكذلك يقول عضو جمهوري في الكونغرس «في أحد المطاعم تسألنا النادلة إذا أردنا قشّات. ومن ثمّ تقول بأن عليها أن تسأل خوفاً من «شرطة القشّ». أهلاً بكم إلى الاشتراكية في كاليفورنيا!».
إذاً، وفق أيديولوجيي اليمين الجديد، لن تأتي الاشتراكية لتأميم الشركات الكبرى، ولا لتنهي حكم الرأسمال المالي، ولا لإعادة توزيع الدخل والثروة، ولا لإعادة الحلم الأميركي إلى حيّز الواقع، ولا لإنهاء الحكم البلوتوقراطي، ولا لإنهاء سيطرة الشركات على السياسة وعلى صنع السياسات وعلى الكونغرس في أميركا. بل ستأتي، ببساطة، لتسرق الهامبرغر من الأميركيين. وليس الهامبرغر فقط، بل كل ما يرتبط أيضاً، بما يُعرف بـ«طريقة الحياة الأميركية»، من القشّات البلاستيكية إلى الميلك شايك.