أبدأ بتوضيح معنى الغنائمية وتعريفها على مستويين. في المستوى الأوّل، أستعيد وصف الدولة (النظام في لبنان في اللغة الشعبية، كما في اللغة السياسية) بالدولة المزرعة، للتعبير عن النظام الزبائني التقليدي منذ الاستقلال (الواسطة والمحاسيب، أو مقولة الإقطاع السياسي بما هي تنظير لأصل هذه الظاهرة وتحديد لأساسها الاجتماعي – التاريخي). وبعد الحرب، ومع صعود مشروع إعادة البناء على أساس نيوليبرالي أكثر اندماجاً في العولمة والأقلمة من منظور اقتصادي، جرى تداول مصطلح الدولة الشركة، في مقابل الدولة المزرعة، للتعبير عن التمايز والتناقض الجزئي بين منطق المزرعة (التقليدي) ومنطق الشركة (المعاصر). تناقض كان محكوماً بالتوازن العام لمصلحة الطرف السياسي المُسيطر على لبنان في حينه (النظام السوري)، وضمن توزيع «الاختصاص» في الاقتصاد والإعمار (لأصحاب منطق الشركة)، وفي الأمن (لصاحب القرار الأعلى، وهو نظام الوصاية السوري، ومعه القوى المحلية الحليفة أو التابعة).
أنجل بوليغان ــ المكسيك

كانت العلاقة بين مشروع الدولة المزرعة والدولة الشركة محكوماً بالهيمنة الخارجية للطرف السوري، واتخذت صيغة التحالف/ الصراع بين المشروع الاقتصادي والمشروع الأمني، حيث كان الأوّل يتوقّع أن ينتهي التعايش القسري المفروض مع النظام الأمني في وقت ما قريب، ويتحرّر من تقديم التنازلات والإتاوات المبالغ بها لهذا الأخير، تمهيداً للانتقال إلى تغليب (ولو جزئياً ومبتسراً) لبعض قواعد الاقتصاد، مع تحرّر نسبي من الخضوع القسري لمنطق الإتاوة المفروض من النظام الأمني. كلّنا يعرف أن هذا الصراع انتهى إلى انتصار الأمن على الاقتصاد، والخارج على الداخل، وخسر المشروع الاقتصادي المستقل نسبياً، وأُجهضت محاولات بناء مشروعه السياسي الخاص في إطار الدولة اللبنانية. حصل ذلك بنحو عنيف اعتباراً من عام 2004، مع التمديد للرئيس إميل لحود، ثم عام 2005، مع اغتيال رئيس الحكومة الأسبق الرئيس رفيق الحريري؛ ثم تكرّس أخيراً مع خسارة ما كان يُعرف بـ14 آذار للغالبية النيابية لمصلحة الخصم السياسي الذي مثّله تحالف 8 آذار، والذي كان تعبيراً محلّياً عن المشروع الأمني السوري – اللبناني في حينه.
إلا أن خسارة مشروع الدولة الشركة لم يجرِ لأجل العودة إلى صيغة الدولة المزرعة التقليدية (كما في صيغة ميثاق 43 ولاحقاً كما في نص الطائف)، بل جرى تجاوز هذه الصيغة (بما فيها الصيغة الطائفية التقليدية التي تناولناها في مقال سابق) لأجل صيغة الدولة الغنيمة، حيث يطغى التحاصص الفجّ بشكل شبه مُطلق على أساس منطق القوّة المباشرة. أي إن لبنان انتقل من منطق المزرعة والشركة أو مزيج منهما، إلى منطقة الدولة الغنائمية، وهو الوصف الأكثر دقّة للنسق الراهن في النظام السياسي وفي أداء الأطراف.
أما المستوى الثاني، فيتعلّق بالتعريف المفهومي العلمي لمصطلح الغنائمية، وهو تعريب لمفهوم الباتريمونيالية – النيوباتريمونيالية (الإرثية والإرثية المحدثة) وفق الفهم الفيبيري (نسبة إلى ماكس فيبير)، وهو أمر سيتضح في سياق النص(1). وبهذا المعنى، فإن مصطلح الغنائمية يتمتع بخاصية الفهم والاستخدام الشعبي، مع احتفاظه بطابعه العلمي. وهذا ينطبق، برأيي، على فكرتي الدولة المزرعة والدولة الشركة، التي تتمتع بدورها بعمق لا يقلّل منه الاستخدام الشعبي لهذه المفردات، لا بل يكسبها ذلك قوة إضافية.

الاغتنام: شرعنة القوة
في النظم التقليدية (الباتريمونيالية) تستمدّ النظم شرعيتها من التقاليد والوراثة ورابطة الدم، وأحياناً من القوة المباشرة (يسمّيها فيبير حينها نظم سلطانية). وفي النظم الرأسمالية الحديثة، تكون الثروة (رأس المال والاقتصاد) مصدر السلطة الحقيقية إلى حدّ كبير (أو هكذا هي في النموذج النظري)، وتتخذ شكل الدولة الحديثة مع جهاز دولة يعمل وفق قواعد مكتوبة معلنة مستقلّة نسبياً عن السلطة السياسية وتخضع للقانون، وتستمدّ السلطة ومؤسّساتها الشرعية من الانتخابات والدستور والقانون. وفي هذه الدولة الحديثة يستطيع الاقتصاد أن يعمل وفق قواعد اقتصادية يحكمها السعي إلى تعظيم الربح واستدامته من خلال آليات اقتصادية وتنظيمية تضمن ذلك، وتقدّم بما هي قواعد مستقلّة نسبياً عن السياسة بمعناها المباشر، وغالباً ما تكون السياسة في خدمتها في نهاية المطاف، بما هي مصالح عامة لرأس المال والطبقة التي تستحوذ عليه. ففي هذا النظام، السياسة خادم للاقتصاد وتعبير مكثّف عنه. وهذا التمايز بين مستويات الفعل الاقتصادي والسياسي (والاجتماعي والثقافي) هو في أساس تكوين الدولة الحديثة والرأسمالية.
في الدولة الغنائمية المعاصرة (النيوباتريمونيالية) تنشئ الدولة مؤسّسات ودساتير وقوانين مُشابهة لتلك الموجودة في الدولة الحديثة، إلّا أنها تتميّز بوجود نظامين متعايشين، أوّلهما نظام القواعد الدستورية والقانونية المكتوبة، التي تنظّم تشكيل مؤسّسات السلطة ومهمّاتها وعلاقة المواطن بالإدارة والدولة. والنظام الثاني، نظام غير مكتوب مكوَّن من علاقات الولاء والتبعية والزبائنية، وهو النظام الفعلي في الممارسة الذي يتفوّق على القانون المكتوب. وهكذا تكون انتخابات، لكن لا معنى لها غالباً، أو يمكن التحكّم بنتائجها مسبقاً. ويتقدّم المواطنون إلى الوظائف العمومية وفق الشروط القانونية المنصوص عليها، ولكن التوظيف يجري على أساس الولاء للزعيم، لا على أي أسس أخرى (ولا حتى على أساس طائفي إلّا من حيث الشكل والتوزيع الكلّي للأعداد). وكلّما كانت القواعد غير المكتوبة أقوى من القوانين، كان النظام أقرب إلى الغنائمية، وبالعكس. أما عندما يبلغ النظام الغنائمي حدّاً متقدّماً، فهو يسمح لنفسه بالاستغناء عن الدستور أو القانون، فيعطّل تطبيقها أو يمارس عكسها، أو يفسّرها من موقع سلطوي لا قانوني، ولا سيّما إذا كانت علاقات الولاء للزعامات المُسيطرة قوية بالقدر الكافي، أو إذا كان النظام كلّه مدعوماً بقوة قاهرة خارجية أو داخلية، بما يعطّل فعلياً إمكانية المساءلة أو المحاسبة والتغيير. في الحالة اللبنانية، لنتذكر إقفال مجلس النواب، وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية، والتعسّر المُتكرّر في تشكيل الحكومات أو إصابتها باضطرابات مُتكرّرة في عملها، وتجزؤ القرار الحكومي، والتعيينات في كل الوظائف العمومية، وعدم احترام أصول التعيين ونتائج امتحانات مجلس الخدمة المدنية... إلخ. هذه أمور كانت تحدث سابقاً، لكنها اليوم هي الممارسة العادية الطاغية لمؤسّسات الحكم والجهاز الإداري للدولة. تنبثق على هذا الأساس شرعية أخرى، هي شرعية القوة (أياً كان مستوى القوّة الذي تمارس فيه)، فإن حدود ممارسة السلطة والحكم ليس الدستور أو القانون، بل الحدود هي حدود القدرة والقوّة التي يملكها الطرف السلطوي المُعيّن. وهي قدرة وسلطة متفاوتة حكماً في سلطة لا تزال حتى الساعة متعدّدة المكوّنات.

الرأسمالية الباتريمونيالية والغنائمية
في كتابه الأخير(2) رأس المال في القرن الـ21، استخدم توماس بيكتي مفهوم الرأسمالية الباتريمونيالية patrimonial capitalism ليصف الرأسمالية المعاصرة في ظل العولمة الراهنة. وحدّد بعض مميزاتها بأنها رأسمالية تتميّز بأن عائد الثروة فيها أعلى من عائد العمل، ما يعني خروجاً على النموذج المثالي للرأسمالية، بما هي إعلاء من قيمة العمل والكفاءة الفردية مقابل التراتبية والوراثة التي كانت العوامل الحاسمة في المجتمع الاقطاعي (قبل الرأسمالي). وهو بذلك يرى أن مسار تطوّر الاقتصاد الرأسمالي نفسه قد قاد، بحكم آلياته الداخلية، إلى هذه الوضعية التي جعلته يفضل الريع على الإنتاج، من خلال تضخّم القطاع المالي، ومن خلال إيجاد آليات تصنيف تعيد إنتاج تراتبية اقتصادية (وسلطوية) جامدة تشبه التراتبية الاجتماعية السياسية في المجتمعات الإقطاعية، وتضمن عملية إعادة إنتاج المراتب، سواء من خلال التحكّم بجودة التعليم الجامعي، أو من خلال آليات اقتصادية لا تكتفي بجعل عائد الثروة (بما هو عمل متراكم وموروث غالباً) يتقدّم على عائد العمل والكفاءة الفردية الراهنة فحسب، بل تجعل العائد أيضاً مرتبطاً بنحو طردي بحجم الثروة. فكلّما كانت ثروتك أكبر، كان العائد (ريعاً أو ربحاً) أكبر. وهذا يعمّق التفاوت ويعطّل الحراك الاجتماعي الصاعد، ما يعيدنا إلى المراحل المُبكرة من تشكّل الرأسمالية العالمية، في اتجاه مخالف للمسار الذي ساد بين الحرب العالمية الثانية والثمانينيات.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يلفت النظر أن باحثاً ألمانياً (أوليفر شلومبرغر) استخدم في أطروحة دكتوراه عام 2004 عن التطوّر الاقتصادي في الدول العربية المصطلح نفسه: الرأسمالية الباتريمونيالية patrimonial capitalism من أجل وصف الاقتصادات العربية التي درسها. وهو رأى أن مسار الإصلاح الاقتصادي في البلدان العربية (انسجاماً مع سياسات التكيّف الهكيلي) لن تقود الاقتصادات الريعية أو شبه الريعية العربية للتحوّل إلى رأسماليات سوق كلاسيكية، كما يقول أو كما يتوقّع الاقتصاديون المروّجون لها، بل إنها ستؤدّي إلى رأسماليات باتريمونيالية. ويعرّفها بأنها «نموذج فرعي للاقتصاد الرأسمالي، يتشكّل من خلال سيطرة السلطة السياسية على الفعالية الاقتصادية، وهو نموذج يميز النظم السياسية غير الديمقراطية حيث تطغى السمات غير النظامية في التفاعل الاجتماعي على التنظيم المجتمعي، بما يحول دون صمود مبدأ سيادة القانون...». ويضيف: «من الخطأ أن ننظر إلى هذا الاقتصاد بصفته اقتصاداً غير فعّال. ففي الواقع، إن فعاليته السياسية شديدة جداً»(3).
يذهب شلومبرغر في تحليله لتفاعل الاقتصادات الباتريمونيالية مع الاقتصادات الرأسمالية المتقدّمة ليستنتج وجود شواهد على أن هذا التفاعل والاحتكاك بين الرأسمالية المتخلّفة والرأسمالية المتقدّمة لا يؤدّي إلى تقدّم الأولى وتحوّلها إلى العقلانية الاقتصادية الكلاسيكية، بل إن العكس يحصل، إذ تزداد الخصائص الباتريمونيالية في اقتصادات الدول المتقدّمة، وهو ما يعبّر عن الميل المتزايد إلى الريع وإلى تضخّم القطاع المالي على حساب قطاعات الإنتاج. يصل الباحث إلى استنتاج مشابه لما توصّل إليه بيكتي، إلا أن هذا الأخير سلك مسار تحليل الديناميات الداخلية لرأسماليات المركز المتقدّم، فيما سلك شلومبرغر مسار تحليل يجمع بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لاقتصاديات عربية طرفية، وتوصل إلى نتائج مشابهة.
أعتقد أن ما جاء في وصفه وتحليله عن الرأسمالية الباتريمونيالية في الدول العربية التي درسها، ينطبق إلى حدّ بعيد على لبنان، لا بل ثمّة خصائص أكثر تطرّفاً في تشابك الاقتصاد والسياسة في لبنان، وإخضاع الأول للثاني، وهو ما يجعل وصف الغنائمية أكثر تعبيراً (بالمضمون العلمي وبالدلالة اللغوية) عن واقعه السياسي والاقتصادي، وعن الرأسمالية اللبنانية.
• يتبع جزء ثانٍ عن السياسة والاقتصاد في لبنان

* مستشار في قضايا الفقر والتنمية

المراجع
(1) سبق استخدام هذا المفهوم والمصطلح نفسه (الغنائمية) بالمعنى الذي أعنيه في هذا المقال، في ندوة متخصّصة نظّمها المركز اللبناني للدراسات في شباط 2002: «الدولة الغنائمية والدولة التنموية: مقارنة مع البلدان الآسيوية». هو المفهوم الذي استخدمته في كتابي «الدولة الغنائمية والربيع العربي» (دار الفارابي، 2014)
(2) Thomas Piketty, Le capital au XXIe siècle, Seuil, Paris 2013
(3) Oliver Schlumberger, Patrimonial Capitalism: Economic Reform and Economic Order in the Arab World, Eberhard-Karls Universitat Tubingen, Institut Fur Politikwissenschaft, 2004