«ليس هناك من دربٍ ملَكية نحو العلوم. فقط الذين لا يهابون الصعود المُضني على دروبها المُنحدرة لديهم الفرصة بأن يصلوا إلى عليائها المُضيء»كارل ماركس

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، التقت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية مجموعة من الاقتصاديين في معهد لندن للاقتصاد (LSE)، وكانت الأزمة الاقتصادية الكبرى، التي اندلعت، في 15 أيلول/ سبتمبر، مع انهيار ليمان براذرز في الولايات المتحدة، في أوجها. ووجّهت الملكة سؤالاً فاجأ هؤلاء الاقتصاديين، الذين كانوا يظنّون بأن زيارتها ستكون بروتوكولية لافتتاح مبنى؛ وأنه سيتمّ تبادل الكلمات اللطيفة وينتهي الأمر هناك، لكنها سألت: «إذا كانت الأمور بالفعل كبيرة، فلماذا لم ينتبه أحد لها؟» بعد هذا الحدث، وفي حزيران/ يونيو 2009، دعت الأكاديمية البريطانية عدداً من الاقتصاديين والسياسيين والصحافيين الاقتصاديين والموظّفين السابقين في الإدارات الحكومية إلى طاولة مستديرة حول الموضوع، وصدر عن هذا اللقاء في تموز/ يوليو رسالة إلى الملكة جاء فيها «في الخلاصة، إن الفشل في الرؤية المُسبقة لتوقيت الأزمة ومداها وعمقها وفي عدم إمكان إبْعَادها، لديه أسباب عدّة، إلا أن السبب الرئيس في ذلك هو الفشل الجماعي في الخيال لدى الكثير من الأشخاص الأذكياء في بريطانيا وفي العالم لفهم المخاطر على النظام ككل». أي أن الاقتصاديين وغيرهم قدّموا اعتذاراً جماعياً من الملكة لخّصته إحدى وسائل الإعلام على أنه «Sorry Ma'am--we just didn't see it coming»!
طرحت هذه التجربة (وأزمة 2008 بالطبع) أمرين أساسيين أمام الأكاديميين والاقتصاديين حول العالم. الأول، اهتزاز علم الاقتصاد نفسه، الذي سيطرت عليه لفترة طويلة الأفكار التي تؤمن بمثالية الاقتصاد الرأسمالي وعدم إمكان تعرّضه لأزمات دورية أو حادّة. والثاني، وَضْع الاقتصاديين والمحلّلين أمام مسؤولياتهم في استشراف المعضلات والأزمات الاقتصادية وطرح الحلول أو الإجراءات الاجتنابية لها.

الإيكونوميست وأمور أخرى
لم أظن يوماً أنني سأكون في موقع المُدافع عن مجلّة الإيكونوميست البريطانية المحافظة، ولكن ما حصل في لبنان الأسبوع الماضي عندما نشرت المجلّة مقالاً حول الأزمة واحتمالاتها في لبنان يبعث على القلق الشديد. فقد تراوحت ردود الفعل بين من أوحى بأن المجلّة هي جزء من مؤامرة دولية لزعزعة الاستقرار في لبنان، وصولاً إلى التلميح بأن كتبة المقال لا يفقهون بالاقتصاد وما إلى هنالك من ترداد للقديم دفاعاً عمّا يمكن أن يُوصف، بعد كل هذا الدفاع، بالمعجزة اللبنانية التي لا يُمكن نقدها! طبعاً، لكلّ شخص رأيه كما يُقال، ولكن ردود الفعل «الجماعية»، تكشف إلى حدّ بعيد هشاشة الوضع في لبنان، وكم نحن بعيدون عن استيعاب الخلاصتين من تجربة الاقتصاديين مع ملكة بريطانيا.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

ولكن الأسوأ من ذلك، يبدو أن هناك منحى يزداد ترسّخاً مع الوقت من أن هناك أموراً لا يمكن أو من الممنوع مناقشتها أو الكتابة عنها (حتى ولو كانت في مجلّة تعتبر قلعة من قلاع الرأسمالية إن لم تكن الناطق الرسمي باسم الاقتصاد الحرّ في العالم منذ 1843). وهذا المنحى تسارع منذ نشر ورقة الاقتصادي توفيق كسبار بعنوان «الأزمة المالية في لبنان»، في آب/ أغسطس 2017، والتي أثارت ردود فعل شديدة وصلت إلى التهديد بالمقاضاة؛ وتجسّد أيضاً في آخر فصوله في تصريحات الوزير رائد خوري السيّئة الذكر المبنية على نظريات المؤامرة التي يُشيعها عادة القوميون البدائيون والشعبويون اليمينيون. إذاً، يبدو أن هناك من يحاول فعلياً أن يمنع المعرفة والبحث في أمور مهمّة جدّاً بالنسبة إلى الشعب اللبناني، بل هي الأهم اليوم، ألا وهي الاقتصاد اللبناني وأزمته.
في عام 2008، صدر كتاب للفيزيائي الأميركي الحائز على جائزة نوبل روبرت لافلين، تحت عنوان «جريمة العقل وإغلاق العقل العلمي»، حول عوائق عدّة تُقام حول العالم أمام البحث العلمي ونشر المعرفة، وذلك بعد تضمين أو تصنيف بعض الحقول والمعلومات على أنها «ملكية خاصة». ويخلص لافلين الى أن التفكير الحرّ في هذه الظروف، وتحت سيطرة منطق السوق، حيث كل شيء يتم قياسه بالنقود وأصبح مملوكاً من القلّة، أصبح يُعتبر على أنه معادٍ للمجتمع أو حتى يُعدّ جريمة. من هنا، هل يعتبر البعض أن الاقتصاد اللبناني هو «ملكية خاصة»؟ هل هناك من يحاول أن يؤلّب المجتمع ويستغل خوفه وقلقه الاقتصادي إلى وقود في حربه ضد العلم؟ يبدو أن الجواب هو بالإيجاب عن السؤالين، ولربما عن أسئلة عدّة يمكن تخيّلها أيضاً في هذا الإطار.

هل البديل «كهنة» الريع والمحاصصة؟
طبعاً، الاقتصاد ليس علماً دقيقاً (exact science) مثل الفيزياء، لكن يبدو أن البديل عن وضع وصف علمي للأزمة في لبنان، هو الهروب إلى الخيال من جهة أو إخضاع السياسة الاقتصادية والتفكير الاقتصادي لمنطق المحاصصة من جهة أخرى. ونورد الآتي كبعض من الأمثلة السريعة:
أولاً، في سياق الصراع الدائر اليوم، قال وزير الطاقة إن «هناك خطوتين إصلاحيتين سوف تساهمان في خفض العجز، لا يزال يرفضهما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وهما عودة النازحين السوريين الذين قوّضوا الاقتصاد الوطني وإقفال صندوق المهجّرين الذي فاقت كلفته 3000 مليار ليرة لبنانية من دون تحقيق العودة المطلوبة». الكلّ يعرف أن هذين الأمرين غير صحيحين البتة، فلا اللاجئون السوريون قوّضوا الاقتصاد الوطني، ولا صندوق المهجّرين يمثّل، اليوم، أي عبء على الخزينة.
ثانياً، في الصراع حول الحقائب الوزارية، ذكر تقرير إخباري أن القوات اللبنانية طلبت حقيبة النفط لها، واعدةً بحلّ مشكلة الكهرباء في غضون 6 أشهر. وجاء في التقرير «وأضاف جعجع مخاطباً الحريري، أنا مستعدّ لأن أشارط على هذا الأمر، ومعنا شاهدان على الشرط هما ​ملحم رياشي​ وغطاس خوري». يبدو أن أمراً حيوياً مثل تأمين الكهرباء يخضع لـ«المشارطة» في جمهورية الطائف!
أخيراً، مصرف لبنان الذي يدّعي المهنية العالية يحجب معطيات مهمّة مثل صافي الاحتياط من العملات الأجنبية لديه، وتشير نظرة سريعة إلى موقعه الإلكتروني إلى أنه لم ينشر إلا ثلاثة أبحاث علمية (بحثان في 2011 وبحث واحد في 2013).
من هنا، فإن صراعات أحزاب المحاصصة واستخفافها بالقضايا الحيوية هي بمثابة الشخص الذي يستعمل الحرية لأن يصرخ «حريق» داخل مسرح مكتظّ بالناس لا الاقتصاديين والصحافيين والإيكونوميست. فالتسرّع واستسهال الاتهامات ينبع من واقع أن الذين في موقع السيطرة ليس لديهم أجوبة لأي نقد، وهم يمثّلون نظاماً قديماً متهالكاً يظنّ أن العالم على صورته، فكما قال ماركس عن لوي بونابرت «فإنه الآن عندما يتخيّل أن القناع البونابرتي يمثّل نابليون الحقيقي يُصبح ضحية نظرته إلى العالم، فهو المُهرّج الجديّ الذي لا يرى بعد الآن تاريخ العالم ككوميديا، بل كوميديته هي تاريخ العالم». ونحن الآن أمام «كوميديا» مماثلة يواجهها العقل (reason) وعلم الاقتصاد السياسي، لكن في داخلها مزيج من كهنة اقتصاد السحر الأسود والمدافعين عن «الملكيات الخاصة»، ومن بينها الثروة التي جُمعت من المالية العامة في قناةٍ يحرس تدفُق المال فيها أرباب المحاصصة الطائفية؛ وهؤلاء كلّهم يخافون الحقيقة لأنها دائماً ثورية، وبالتالي عليهم قتلها.