«قبل الإنترنت، كان من الصعب أن تجد أحدهم ليعمل لصالحك لمدة عشر دقائق وتقوم بطرده من بعدها. لكن ومع التكنولوجيا، أصبح بإمكانك أن تجدهم، تدفع لهم مبلغاً زهيداً من المال لتتخلّص منهم في ما بعد حين لا تحتاج إليهم» (م. مارفيت، 2014).هذا مقتطف من حديث لوكاس بيوالد، مدير شركة Crowdflower، في إحدى اللقاءات في عام 2010. قد يعتبر البعض أن هذا الحديث فيه الكثير من الوقاحة الرأسمالية، إلا أن أبرز دلالاته يكمن في أنه مباشر وبعيد عن المطيّبات التي يغرق بها الخطاب التسويقي لأشكال العمل الجديدة (كالريادة، والعمل لحسابك الخاص، الحرية الفردية، الاستقلالية... الخ)، التي تتطلّب قيام الفرد ببيع قوة عمله من خلال الاتصال بشبكة الإنترنت وعبر استعمال المنصّات الإلكترونية.
فاروق سويارات ــ تركيا

في الوقت نفسه، كان ترافيس كالانيك، وهو رائد آخر من روّاد المنصّات الإلكترونية، يتحدّث عن خدمات «أوبر» للنقل، فيصفها بأنها تقوم «بإيصال السيارة لكم، بعدها يمكن القيام بما تشاؤون به. ولكن، السيّارة تأتي مع سائقها أيضاً» (هامبل، 2013). ولكن، في عام 2017، اضطر كالانيك للاستقالة من منصب المدير التنفيذي المؤسّس لشركة «أوبر»، بعد سلسلة من المواقف العدائية والقرارات التي اتخذها، ولا سيّما نشر وكالة «بلومبيرغ» فيديو مصوّراً له وهو يتجادل بشكل حادّ مع أحد سائقي «أوبر»، لينتهي الحديث بإهانة السائق فوزي كمال، واصفاً إياه بغير المسؤول لأنه يعترض على تخفيض حصّة السائقين من التعرفة. شكّل هذا الفيديو كابوساً تسويقياً لصورة «أوبر»، إلا أن المهم في هذه القضية أن الكاميرا Dash Cam، التي وضعها فوزي كمال ليحمي نفسه من أي مضايقات قد يتعرّض لها أثناء عمله، آتت بفائدتها.
شكّلت هذه الحادثة مناسبة لإعادة الحديث عن إمكانيات المواجهة العمّالية ومقاومة الضغوط التي تمارسها الشركات عبر اعتماد أنماط تشغيل تخلو من أي تدخل بشري Dehumanized labour process، كما تصفها الباحثة ليلي إيراني (2013). فكيف لعامل أن يتناقش مع مُشرفه المباشر أو أن يعترض على قراراته حين يكون هذا الأخير عبارة عن خوارزمية؟ وكيف للعامل أن يدافع عن موقعه في عملية الإنتاج حين يُحجّم دوره ويختصر لما يشبه النقرة click على شاشة العرض؟ فعلاقات العمل هذه تجرّد العامل، المُعاد تصنيفه كرائد أو متعهد أعمال، من أي ارتباط وظيفي أو إداري أو حتى زمالة مع أقران (Lehdovirta 2016).
بالشكل، نجد أنه من شبه المستحيل أن تقوم قائمة للعمّال بعد هذه المتغيّرات البنيوية في طبيعة علاقات العمل، إلا أن العمّال أثبتوا في وقت قليل أنهم ما زالوا يحتفظون بالكثير من المفاجآت، وهذا ما سنستعرضه أدناه عبر مناقشة ثلاث تجارب لمواجهات عمّالية حصلت وتحصل اليوم عبر نماذج مختلفة من المنصّات الإلكترونية.

كسر هيمنة الخوارزميات
قامت الباحثة ليلي إيراني، بالتعاون مع سيكس سيلبرمان، بتطوير برنامج أسمتاه توركوبتيكورن Turkopticorn، يهدف إلى تمكين العمّال الناشطين على منصّة «ميكانيكول تورك»، التابعة لشركة «أمازون»، من مواجهة الأحادية التي يفرضها نظام العمل والخوارزميات المشغّلة له، والتي تضع العمّال تحت الهيمنة المباشرة لأرباب العمل ومن دون أي إمكانية للاعتراض أو حتى النقاش.
تنشط منصّة «ميكانيكول تورك» في مجال الجمع بين طالبي خدمات وعمّال يبحثون عن مصدر دخل إضافي عبر القيام بمهمات بسيطة عبر الكومبيوتر الشخصي، وتفرض عليهم عقوداً زمنية لا تتعدى الدقائق المعدودة، ومردوداً مادياً متدنياً جداً. وتقوم الخوارزميات المستخدمة على هذه المنصّة بإنتاج ما يشبه السمعة المهنية الرقمية للعمّال، والتي تبنى بشكل أساسي على تقييم جودة أداء العمّال من قبل طالبي الخدمات، الذين يملكون الحق في الامتناع عن الدفع في حال عدم رضاهم عن النوعية المقدّمة لهم. قامت فكرة «توركوبتيكورن» على عكس مفهوم المراقبة الدائمة التي تفرضها الخوارزميات على العمّال، وذلك عبر البناء على مفهوم فوكو لميكانيزمات العقاب والترويض Discipline and punish، واستعارة مصطلح الـpanopticon الذي يشير إلى برج المراقبة المرتفع، وهو غالباً ما يتوسّط ساحات السجون ويراقب الجميع ما يخلق إحساساً بالمراقبة الدائمة لدى المساجين حتى لو كان أحياناً خالياً من الحرّاس. هكذا، قامت الباحثتان بإنشاء برنامج يجري تحميله بسهولة على الكومبيوتر الشخصي للعامل، ويمكّنه من الولوج إلى الروابط الإلكترونية للملف الشخصي للعامل على منصّة «ميكانيكول تورك»، فيعطي هوية موحّدة للزبائن الذين يعملون مع العمّال الموصولين بالبرنامج، حيث بات بإمكانهم الاطلاع على تاريخ تعاطي الزبائن مع العمّال وكيفية تقييمهم لجودة الخدمات المقدّمة، وتبيان ما إذا كانوا من الزبائن الذين يستغّلون نظام التقييم للتهرّب من دفع مستحقّات العمّال بحجّة عدم الرضى عن جودة الخدمة المقدّمة. في المحصلة، تمكّن «توركوبتيكورن» من جمع الآلاف من العمّال الناشطين على هذه المنصّة، ومنحهم عبر صفحة خاصة فرصة كسر العزلة المفروضة عليهم والتواصل فيما بينهم لتقييم معايير العمل أو حتى تقييم الزبائن، ما مكّنهم من عكس السمعة الرقمية المفروضة عليهم من قبل الخوارزميات.
ما زالت النقابات الكلاسيكية بعيدة عن مقاربة جوهر العمل عبر المنصّات الإلكترونية، فالملايين يجرى استغلالهم لإنتاج كمية مهولة من القيمة المضافة من دون أي ضمانات أو تعويضات ومن دون أي حماية نقابية

نجح «توركبتيكورن» إلى حدّ ما، وأصبح موقعه الخاص يعجّ بالمحادثات الخاصة بالعمّال وبالتقييمات للزبائن، حتى أنه جرى إنشاء صفحة عُرفت بصالة العار Hall of Shame، والتي خصّصت لاستعراض أسماء الزبائن، من أصحاب العلاقات السيّئة مع العمّال والتحذير من العمل معهم. كبرت رقعة تأثير البرنامج حتى بدأ عدد من الزبائن يطالبون بعدم تداول أسمائهم على الصفحة، واعدين بالعمل على تحسين تعاطيهم مع العمّال، فيما ادّعى البعض عدم صحة التهم الموجهة إليه من العمّال.
هذا البرنامج ليس وحيداً، بل يتكامل عمله مع برنامج إلكتروني آخر صمّمته الباحثة والطالبة نولفاري صالحي، التي طوّرت مع زملائها برنامجاً يدعى «دينامو»، يهدف إلى إعطاء العاملين على منصّة «ميكانيكول تورك» فرصة التواصل في ما بينهم لمناقشة قضاياهم والبحث في سبل المواجهة المباشرة والتعاضد والمناصرة. في الحالتين، استخدم الباحثون والمنظّمون النقابيون نمط العمل الخاص بمنصّة «ميكانيكول تورك» للترويج لبرامجهم التي تدعم العمّال وتساعدهم على المواجهة. فالخوارزميات، التي ما تزال في طور التعلّم، يمكن استغلالها في محاولة تنظيم قوة العمل وتمكين العمّال من مواجهة أحاديتها والترويج لخوارزميات أخرى توظّف من قبل الباحثين والعمّال (في ما بعد) للمناصرة وكسر العزلة والمكننة الكاملة لعلاقات العمل.

التنظيم الرقمي
يقوم التنظيم الرقمي على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بتنظيم العمّال وتمكينهم من القيام بالتضامن والمناصرة لقضاياهم. هنا نتكلّم عمّا هو أبعد من صفحة فايسبوكية تنشر المعرفة، بل نتحدّث عن قيام العمّال باعتماد أشكال تنظيم تتلاءم مع أنماط عملهم، وأمامنا تجربتين سنستعرضهما سريعاً.
أولاً، تجربة عمّال توصيل المأكولات (الدليفري) في شركة Deliveroo في لندن، الذين تمكّنوا من الالتفاف على نمط العمل المفروض عليهم، والذي يفرض توزيعهم إلى أماكن مختلفة ويمنع التقاءهم، كما يحرمهم قانوناً من الحقّ بالتنظيم. الأمر كلّه بدأ حين قامت الشركة بتغيير طريقة دفع الأجرة، متخلّية عن مبدأ الحد الأدنى من الدخل المضمون، ما يعني مزيداً من الضغوط على السائقين. أمام هذا الواقع قام السائقون بالتواصل عبر الأماكن المحدودة التي يمكن لهم الالتقاء فيها، مثل لحظات الانتظار عند إشارات المرور أو أمام المطاعم أثناء الانتظار لتحضير الطعام أو في زوايا الشوارع حيث تتركّز المطاعم. في ما بعد، أنشأ العمّال مجموعات تواصل عبر تطبيق واتساب للرسائل السريعة، وناقشوا عبرها وجهات نظرهم من التغيير المفروض من قبل الشركة وكيفية مواجهته. واتفقوا على ضرورة القيام بإضراب تحذيري والتواصل مع مجتمعاتهم الثقافية، كون غالبيتهم من المهاجرين، للضغط على أصحاب المطاعم كل بحسب جاليته. في المحصلة، تمكّن السائقون من إعلان إضراب أمام المقرّ الرئيسي للشركة، وفرضوا أنفسهم كجهة أساسية من عملية الإنتاج، وأُجبر المدير المسؤول للنزول والتحدّث معهم، وتمكّنوا من تحقيق بعض المكتسبات الطفيفة، ولكن الأبرز كان إعلاء صوتهم ككتلة موجودة وقادرة على التحرّك. اللافت أنه في خضم الإضراب قام الفرع الخاص بتوصيل المأكولات في «أوبر» بإعلان حملة ترويجية لاستقطاب سائقين جدد ومنح الزبائن الجدد فرصة الحصول على وجبة مجانية، فما كان من العمّال إلا أن قاموا بتحميل التطبيق الخاص بـ«أوبر» وطلبوا وجبات لإطعام المعتصمين واستغلال المناسبة للحديث مع أقرانهم العاملين على منصّة «أوبر» ومحاولة استقطابهم (للاطلاع على المزيد يمكن مراجعة المدوّنة الخاصة بالباحث البريطاني جايمي وودكوك الذي يقوم بمتابعة دقيقة وحثيثة لتنظيم هؤلاء العمّال في لندن).
الأمر نفسه ينسحب على حالة سائقي «أوبر» في مدينة مونتريال. فهؤلاء نظّموا صفوفهم وكسروا العزلة التي يفرضها نموذج العمل عبر اعتمادهم على تطبيقات مثل واتساب وZello، الذي يحوّل الهاتف إلى ما يشبه جهاز إرسال لاسلكي يمكّنهم من التواصل من دون الحاجة لقراءة الرسائل. هكذا تمكّنوا من التواصل في ما بينهم واستعمال التنظيم الإلكتروني لمساعدة من يتعرّض لحوادث أثناء القيادة. إلا أن الاستعمال الأبرز كان لضمان سلامة وأمن السائقين من خطر الأعمال العدائية من بعض سائقي سيّارات الأجرة أو حتى لتفادي حواجز التفتيش عن المركبات التي تعمل مع «أوبر» (عندما كانت غير قانونية). فقد تحوّلت مجموعة الواتساب إلى ما يشبه منظومة لتبيان خلو الطرق من أي معوقات أو مخاطر، ووضعوا نظاماً يطلب من كل سائق أن يعلم المجموعة كل ساعة عن خطّ سيره، وهكذا يعلم الجميع بالطرق التي تخلو من نقاط التفتيش، كما استعملت المجموعة لتعليم السائقين الجدد على الإجراءات الأمثل لتحسين المردود المادي أو لتشارك حملات التسويق التي تمنحها الشركة لبعض السائقين دون غيرهم ما يمكّن الجميع من المطالبة بالتقديمات نفسها.
تعلّمنا التجارب الثلاث التي استعرضناها أعلاه، أن الحديث عن انتهاء مرحلة المواجهة العمّالية وعدم القدرة على مقاومة الأحادية التكنولوجية التي تفرضها أشكال العمل الجديدة، هو حديث مبالغ فيه إلى حد كبير. ولكن النقابات الكلاسيكية ما زالت بعيدة عن استيعابه، وما زالت غير قادرة على تخطّي حاجز التعريف القانوني للعمّال كعاملين لحسابهم أو كمتعهدي خدمات، فتغرق في نقاش فرضيات قانونية وضعتها علاقات القوّة المُهيمنة وتبتعد عن مقاربة جوهر القضية، وهي أن الملايين من الأفراد يجرى استغلالهم كبشر بالدرجة الأولى وكعمّال بالدرجة الثانية لإنتاج كمية مهولة من القيمة المضافة من دون أي ضمانات أو تعويضات ومن دون أي حماية نقابية.
نعم، ما يزال التنظيم الرقمي للعاملين على خطوط إنتاج المنصّات الإلكترونية في بداياته. تشوبه الكثير من المشاكل التقنية والسياسية وحتى الأخلاقية أحياناً. فعمّال المنصّات الإلكترونية ليسوا موحّدين، هم يختلفون كمهاجرين وكمحليين، نساء ورجالاً وغير محدّدي الجنس، كعمّال جدد وقدماء. ويفتقدون حتى الإحساس بالزمالة المهنية حيث وضعوا في إطار تشريعي وتنظيمي يصنّفهم كمتنافسين في ما بينهم، ويجعل من امتناع أحدهم عن العمل فرصة لزيادة مدخول الآخر. إلا أن هذا التنظيم الرقمي أصبح اليوم يشكّل «شبحاً» يخيّم على اقتصاد المنصّات الإلكترونية في محاولة لكسر أحادية السيطرة الرأسمالية على الفضاء الرقمي، الذي يشكّل الميدان الجديد لإنتاج القيمة المضافة. إن هذا «الشبح»، وإن كان جنينياً، فهو فرصة لاستعادة العمّال قوّتهم التفاوضية وإعادة تشكيل علاقات القوة ومواجهة الهيمنة والتدجين التكنولوجيين الذين يشكّلان معاً ركيزتي شركات التطبيقات الإلكترونية. فكما بدأ التنظيم العمّالي التقليدي في المصنع وعلى خطوط الإنتاج الأولى، لا مناص من أن ينتقل التنظيم العمّالي إلى حيث يوجد العمّال اليوم، أي إلى خطوط إنتاجهم الرقمية المُستجدّة، حيث تجسّد شبكة الإنترنت البنية التحتية الأساسية لعلاقات العمل. فيا عمّال المنصّات الإلكترونية Sign-in لكسر عزلتكم الجبرية.
* باحث في اقتصاد المنصّات الإلكترونية