في الواقع العملي، يشكّل ثبات سعر الصرف في نظر اللبنانيين محور الاهتمامات الاقتصادية، ويكاد يختزلها. وهذا، في الحقيقة، موقف غريب ولا يمكن فهم حصوله، لولا ما بذل من جهود وشطارة لدفع اللبنانيين إليه، ذلك لأن الاقتصاد اللبناني مدولر في شكل شبه كامل، في مجالات تحديد الأسعار واحتساب التكاليف وتقدير القيم، وفي التسليف والتبادل، منذ ما يقارب عقدين من الزمن. أما في نظر المراقبين الدوليين، فالدين العام هو الذي يحتلّ صدارة الاهتمامات، وهذا موقف مفهوم على أساس ما بلغ الدين العام من مستويات غير مسبوقة وغير مألوفة.لكن اللافت، على الرغم من الاختلاف الظاهر في وجهتي النظر، أنهما تؤدّيان إلى نتيجة واحدة: أن المسألة الاقتصادية في لبنان تكاد تنحصر في إطالة أمد وضع نقدي ومالي استثنائي، وقد حلّ الجهد المبذول ببراعة (والمتابع بشغف من قبل اللبنانيين) لإطالة أمد هذا الوضع محل أي سياسة اقتصادية.
أدّت الازدواجية بين النظرة الداخلية والنظر الخارجية إلى مفارقة شاذّة. ففي السوق المحلية، بدا ازدهار القطاع المالي رمزاً للنجاح الاجتماعي للبنانيين في أعمالهم الخاصة. والواقع أن ذاكرة اللبنانيين لم تحفظ حصول أزمة مصرفية أدّت إلى خسارة المودعين أموالهم، على الرغم من قسوة سنوات الحرب. بدا هذا الازدهار المصرفي منفصلاً في نظرهم عن التراكم الهائل للدين وعن عجز المالية العامة، اللذين نظر إليهما، في المقابل، على أنهما نتيجة تلقائية لانعدام كفاءة الإدارة العامة ولفسادها. وبدلاً من أن ينظر إلى هذا التراكم على أنه مصدر تهديد لمِنعة القطاع المالي، نظر إلى هذه المِنعة على أنها تقي من تراكم الدين وتستوعب آثاره. في المقابل، رُبطَ الثبات النقدي مباشرة بازدهار القطاع المالي، فالقطاع المالي هو الضامن للثبات النقدي ويحقّ له بالتالي الاستفادة منه شرعياً.
على هذا الأساس، أتت الإجراءات التقشفية التي اعتمدتها الدولة، تلبية لاعتبارات دولية مركّبة تدّعي معالجة مسألتي العجز والمديونية من خلال التقشف، وكأنها هي المسؤولة عن المصاعب الاقتصادية اليومية التي يعانيها المواطنون.
وهكذا صُوِّرَت ظاهرتا العجز والتقشف وكأنهما شرّان منفصلان، كلاهما عائد إلى أداء سلطات عامة مقصّرة أو حتى سيئة النيات. أما الثبات النقدي، فبقي خيراً مطلقاً، يضمن استمراره القطاع المالي بمبادرته ومهارته ومهنيته.
بات هذا التصوير راسخاً في الأذهان. وسرعان ما انتبهت السلطات النقدية اللبنانية إليه فعملت على تغذيته في شكل منتظم، لأنها وجدت فيه أساساً لتطوير آلية مستقلّة للإدارة المالية. فسهرت على توجيه الانتقاد تكراراً إلى السلطات العامة لتأكيد تمايزها عنها، وتلاحمت مع القطاع المالي فأشادت بأدائه وأشاد بأدائها، وعزّزت بالتالي الانفصام الحاضر في أذهان الناس.
التسليم القائم على الخوف قد جعل من «كسب الوقت» قيمة مُطلقة، فقد حان الوقت للتخلّص من طاغوت هذه المخاوف ولإرساء قواعد حياة سياسية واقتصادية أكثر اطمئناناً.


من ضمن هذه المنظومة، لم يعد لدى السلطات النقدية اللبنانية أي شيء تطلبه من المؤسسات المالية الدولية، ما عدا بيانات الثناء والتشجيع في بعض الظروف الاستثنائية، لأنها باتت قادرة على التحكّم بالسوق من دون دعمها، لا بل بشرط تلافي تدخلها في نمط إدارتها للسوق.
في المقابل، لم تعد المؤسسات المالية الدولية قادرة على تقديم أي مساعدة ذات فائدة إلى السلطات النقدية اللبنانية: فالحاجات التمويلية للدولة وللقطاع الخاص تؤمّن من خلال دينامية القطاع المالي، وبات أي إصرار من قبل هذه المؤسسات على إعادة البحث في آليات عمل النظام المالي يُترجم وكأنه تهديد للسياسة النقدية، فيواجه بالرفض المطلق، حتى أصبحت المؤسسات الدولية في موضع الاتهام بالعمل على إطاحة التثبيت النقدي وعلى افتعال أزمة لم تكن لتحصل دون تدخلها. أضف إلى ذلك أن المبالغ اللازمة لمواجهة الحاجات المالية الفعلية للحالة اللبنانية سرعان ما فاقت بأضعاف ما بمقدور هذه المؤسسات أن تُقرضه للبنان. وهكذا، بين أن تتحوّل إلى أكباش فداء، أو أن تتدخّل لفرض مساعدة غير مرغوب فيها، أو أن تعجز عن توفير الوسائل الكافية للنجاح في حال تدخلها، فضّلت المؤسسات المالية الدولية اعتماد موقع متحفّظ وإقامة مسافة بينها وبين الحالة اللبنانية.
بنتيجة كل ما سبق، وانطلاقاً من موقفين مختلفين، لا بل متناقضين، تلاقى مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي في الواقع على ترك اللعبة النقدية والمالية تستمرّ دون كابح، وبات حجم الدين العام في لبنان لا يقابله سوى الحجم المدهش للقطاع المالي. فالميزانية المُجمّعة للمصارف بلغت 350% من الناتج المحلي (435% حالياً*)، والودائع المصرفية باتت تمثّل نسبة 270% منه (335% حالياً*)، والتوظيفات المحلية للمصارف أكثر من 260% منه (378% حالياً *)
لكن، بموازاة استمرار هذه الآلية ونجاحها في إطالة أمدها، استمر الاقتصاد الحقيقي في معاناته الصامتة: فالنمو، بعد انقضاء مفاعيل التصحيح التلقائي لفترة ما بعد الحرب، بقي مُعطّلاً، والبطالة والهجرة استمرتا متصاعدتين، واستدانة الأسر والمؤسسات تثاقلت، والخدمات العامة تفشّت فيها عيوب خطيرة، وأنظمة الحماية الاجتماعية باتت تتعرّض في كل يوم لمخاطر ولصعوبات متزايدة، ومصرف لبنان، بعد أن وقع أسير لعبته، لم يتورّع عن مراكمة الديون المُستترة وعن تكبيد الخزينة خسائر مؤجلة وعن استخدام آلية خلق النقد، وهي أصلاً مورد من موارد الدولة، لشراء دعم المصارف التجارية (على الأقل تلك التي لم تمانع في الانخراط في اللعبة بالانسحاب من السوق أو بتقليص ميزانيتها) ولتغطية الخسائر التي رتبها مديرون غير أمناء وعملاء غير محمودي الصيت على بعض المصارف. وفي الحصيلة، توسّع الاعتماد على الحيل والتأجيل، وبلغ الشك دور الدولة وموقعها، وتقلّصت مجالات العمل والتصحيح، ورهن المستقبل بالتزامات ثقيلة.
إن ما يحتاج إليه لبنان اليوم ليس تعديلاً في نمط إدارة شؤونه المالية والاقتصادية، بل هو يحتاج إلى تغيير النموذج الاقتصادي والاجتماعي القائم وإلى تغيير القيِّمين عليه، فالنموذج الذي استحكم حتى اليوم قد استنفد مقدراته، وهو في الواقع ما زال نموذج الحرب نفسه.
فكما عاش اللبنانيون أمور السياسة في ظل الخوف من عودة العنف والحرب، عاشوا أمور الاقتصاد في ظل الخوف من «الانهيار» ومن عودة أيام الذلّ. وما كانوا ليقبلوا بالتنازلات الخطيرة التي قبلوا بها على الصعيدين السياسي والاقتصادي لولا سعيهم لتفادي تحقّق هذه المخاوف السياسية والاقتصادية المترابطة في ذهنهم التي ما انفكّ النظام القائم يوماً عن التذكير والتهويل بها.
إن هذا التسليم القائم على الخوف قد جعل من «كسب الوقت» قيمة مُطلقة. فبعد أن أحبطت الآمال تكراراً، وبات البحث عن البدائل مصدراً للمتاعب، وتبيّن أن تحقيقها معزول عن أي قرار أو سعي محليين، صار التفكير بالتغيير يشبه التهديد. تفسّر هذا الذهنية وحدها المناعة الاستثنائية التي أظهرها المجتمع اللبناني في مواجهة أزمة الاقتصاد والمديونية المكبوتة، كما تلك التي أظهرها سابقاً تجاه عنف الحرب، وحتى الأمس القريب، تجاه القمع السياسي.
يسهل التعرّف إلى أوجه الشبه بين المجاليين الاقتصادي والسياسي. فالسلوك المحافظ والمتخوّف والتشاطر الانتهازي يعملان هنا وهناك.
لقد حان الوقت للتخلّص من طاغوت هذه المخاوف ولإرساء قواعد حياة سياسية واقتصادية أكثر اطمئناناً.
ليس مقبولاً أن يتحوّل الفائض في الإمكانات البشرية للبنانيين وفي أحجام الرساميل المتوافرة في لبنان إلى عوائق أمام نمو الاقتصاد وأن تُستهلَك الموارد الحيّة للبلد في مسارب الهجرة وفي البواليع المالية.
ليس مقبولاً أن تستخدم خصائص تاريخية للمجتمع اللبناني (الانفتاح على الخارج، انتهاء مرحلتي التحوّل الديموغرافي والنزوح إلى المدن، التعدّدية السياسية، تحرّر أوضاع النساء، إلخ...). لتعييره وتعويق مساره الاجتماعي بدل أن تغني تاريخ المنطقة.
ليس مقبولاً أن تتلاشى فكرة الدولة في لبنان لمصلحة سلطات دون مرتبة الدولة، وأن يبتعد اللبنانيون عن السياسية وأن يتنازلوا عن مسؤوليّاتهم لمصلحة قوى خارجية لأنهم يخافون من أنفسهم.
برنامج اقتصادي اجتماعي من اجل لبنان ــ 2005
*المحرّر