«إن الحصول على مكان لائق للعيش حق إنساني أساسي»جيمي كارتر

مما لا شكّ فيه، أن لبنان لديه أزمة سكن. لكن الأزمة ليست كما هي في الظاهر، أزمة قروض افتعلها المصرف المركزي، بل هي أزمة، أو في شكل أدق، معضلة عدم مقدرة الأسواق الحرة على إنتاج سوق سكنية أو عرض وحدات سكنية تستطيع الطبقات الوسطى والعاملة الحصول عليها بنحو مستدام، ولا يشكّل الحصول عليها ضغطاً يومياً مالياً عليها. اليوم، الطبقة الوسطى والعاملة في بيروت مثلاً أربع فئات. الأولى تعيش في المساكن الخاضعة لقانون الإيجارات القديم. الثانية، تعيش في ما يمكن تسميته «الإيجار الجيلي»، أي إنها تعيش مع أهلها. الثالثة، تضطر إلى الهجرة إلى الضواحي مُثقلة بالقروض. والرابعة، تُهاجر لتدّخر ثمناً لمنزل. هذه الفئات تعكس أشكالاً للأزمة حتى قبل اندلاعها مباشرة. لكن الأزمة أيضاً أظهرت إلى العلن أن «الحل النقدي»، الذي اعْتُمد بنحو متزايد لمعضلة السكن في السنوات الأخيرة، هو في مأزق كبير، ليس فقط لأنه لم يستطع حلّها، بل لأنه أظهر هشاشة هذا الحل وإمكان أن يشكّل تهديداً للنظام النقدي الذي أنتجه هو نفسه. مثال الولايات المتحدة عام 2008 يجب أن يكون واضحاً للجميع. وهنا لا بد من وضع بعض الأمور التي تطرح أسباب المعضلة وكيفية إيجاد الحلول لها التي تكمن أساساً في عرض السكن وفي الكفّ عن اعتماد الحلول الأحادية البُعد المرتكزة على الطلب.

(سيلفانو ميلو ــ البرازيل )

أولاً، لا بد من القول إن عمل السلطات النقدية على إيجاد الطلب على الوحدات السكنية، أمر قد يكون طبيعياً، ولكن غير الطبيعي أن تجري محاولة ملاءمة هذا الطلب مع سوق أصبحت، بسبب السياسات النقدية نفسها، تتسم بالارتفاع غير الطبيعي للأسعار، إن لم نقل المضاربة. وهنا تخْلُق هذه الديناميكية، في ظل اقتصاد لا ينمو جيداً ومداخيل متأتية من العمل لا تنمو، سباقاً بين سعر العقار ودخل العامل لا يكون الفوز فيه إلا للأول. وهنا أتى تدخل المصرف المركزي لسدّ هذه الهوة، معتقداً أنه يستطيع، كما يقال، أن يصيب عصفورين بحجر واحد. الأول هو تلبية حاجات هؤلاء العاملين، والثاني الحفاظ على أرباح الرأسمال المستثمر في السوق العقارية. لفترة، كما كل الأشياء المستحيلة في بعض الأحيان، نجحت هذ الاستراتيحية. لكنها اليوم انتهت، ليس فقط لتناقصها الداخلي بل لأنها تخضع أيضاً لصدمات خارجية. فماذا يفعل المصرف المركزي في ظل شحّ السيولة و«الحاجة» إلى رفع الفوائد للحفاظ على نظام التثبيت النقدي المُتّبع منذ 1992؟
ثانياً، إن هبوط الأسعار الأخير، وإن كان الأمر في لبنان خاضعاً للمناقشة بسبب عدم وجود مؤشر للأسعار والعقارات شبيه مثلاً بمؤشر شيلر في الولايات المتحدة، أكد أن الاعتقاد الشائع بأن أسعار الشقق والأراضي تستمر بالصعود إلى الأبد، مهما حصل، هو غير صحيح! صحيح أنه لوهلة بدا هذا الأمر وكأنه قانون، خصوصاً بعد 2006، وتأكدت في أذهان الناس إلى حد ما «الحكمة الشائعة» أن لبنان هو نوع من جنّة عقارية محدودة المكان وكثيرة السكان لا يمكن أسعار العقار فيه أن تنخفض، إلا أن الأزمة الأخيرة أكدت أن قيمة العقار في نهاية الأمر تخضع لمسبّبات اقتصادية أساسها النمو السكاني والدخل. في حالة لبنان، هناك أيضاً الطلب من الرأسمال الخارجي (وهو أمر أصبح عالمياً حتى في الصين!) كما الطلب من «الاقتصاد المزدوج»، أي من العاملين اللبنانيين في الخارج. وهذا «الاقتصاد» الذي بدأ البعض بوضع «الملامة» عليه (لرفعها عنهم بالطبع!) هو الذي أطلق الأزمة إلى العلن.
ثالثاً، ليس كل شخص يجب أن يمتلك منزلاً! فإيجاد مسكن لكل شخص لا يمكن حلّه عبر الملكية فقط. وهذا أمر يجب أن يفهمه اللبنانيون، على الرغم من أن النموذج الاقتصادي القديم يجعل كل لبناني سيكولوجياً يرغب في أن يكون «ريعياً صغيراً». فكل محاولة لذلك في الدول، حتى المتقدمة، برهنت على فشلها، إن في الولايات المتحدة عبر «مجتمع الملكية» الذي أطلقه جورج بوش الابن، أو في بريطانيا و«الرأسمالية الشعبية» لمارغرت تاتشر. فعندما تحاول ذلك، في ظل الرأسمالية، يقع السكن تحت سيطرة الرأسمال، وتبدأ الأسواق المالية والمصارف التجارية والمصارف المركزية بفعل أشياء غريبة للغاية. فمثلاً، المصرف المركزي اللبناني تحوّل في هذا المجال إلى «مصرف اشتراكي». طبعاً، الحقيقة هي غير ذلك هنا، فالبرامج الإسكانية المدعومة ما هي إلا ضريبة على الريع المصرفي، محوّلة نحو الريع العقاري، ومعمّقة سيطرة الرأسمال على العقار، وهذا ما يجب إزالته. وكنّا قد رأينا الشكل القسووي لهذه السيطرة في بداية التسعينيات مع إنشاء شركة سوليدير الخاصة - حان وقت تأميمها الآن - التي حوّلت مركز المدينة عبر الرأسمال الذي استخدم العمالة الأجنبية (كم من اللبنانيين يمكن أن يفتخروا بأنهم شاركوا في إعادة الإعمار؟) إلى ما عليه اليوم من صحراء ذهبية فارغة في لمسة ميداس مشؤومة. في المقابل، في عام 1945، في وارسو، المدينة التي رزحت بقسوة تحت حكم النازيين، تحرّرت للتو وكان أكثرها مُدمّراً. كان خيار الحكومة الشيوعية آنذاك أن تُؤمَّم الأراضي ويُعاد بناؤها، وخصوصاً «المدينة القديمة»، كما كانت قبل الحرب، واستُعين بالرسوم والصور (بسبب تدمير أرشيف المدينة) لإعادة بنائها كما كانت في أكبر عملية إعادة إعمار على هذا الشكل في التاريخ. حتى اليوم، وفي أكثر بلد معادٍ للشيوعية، يرى أحدى المواقع الثقافية البولندية «أن وارسو فعلياً، كما قال الشعار الاشتراكي، بُنيت من قبل الوطن ككل، مع تبرّعات وعمّال أتوا من جميع أنحاء بولندا مع الكثير من العمل التطوعي». الزائر للمدينتين اليوم يرى الفرق الشاسع الذي لا مجال فيه حتى للمقارنة.
رابعاً، آن أوان طرح موضوع «السكن الاجتماعي» أو الـ Social Housingعلى أجندة حل الأزمة الحالية في لبنان، من دون الحاجة إلى سماع أصوات نشاز من الذين «يؤمنون» بالأسواق الحرة. نعم، لا يزال موضوع السكن الاجتماعي أساسياً في بعض الدول الرأسمالية التي تحاول أن تجد حلاً لسكن الفئات ذات الدخل المتدني، وحتى المتوسط. وهو ليس أمراً مُقتصراً على الإعانة الاجتماعية وعنواناً للآفات الاجتماعية. ربما في الولايات المتحدة التي جعلت السكن العام هامشياً عن قصد، هي كذلك. أما في أوروبا، فالأمر مختلف. فبعد عدة أسابيع ستطُرح في بريطانيا «الورقة الخضراء حول السكن الاجتماعي» التي تحاول أن تجدّد هذا القطاع. لكن فيينا تمثل خير مثال على فعالية هذا الحل. في مقالة في الهافينغتون بوست أخيراً، تبدو حالة فيينا في مجال السكن الاجتماعي مثالاً يُحتذى به. فوفقاً لبلدية فيينا، إن 62 بالمئة من مواطنيها يعيشون حالياً في مساكن اجتماعية. كذلك إن ثلث الـ13,000 شقة جديدة التي تُبنى سنوياً مموَّل حكومياً. وهذه الشقق والبرنامج عموماً، ليست موجهة إلى الفقراء فقط، بل هي حسب كاثرين غال، عضوة مجلس فيينا، موجّهة إلى الأشخاص ذوي الدخل المتدني والطبقة الوسطى في شكل عام. فأي شخص دخله نحو 53 ألف دولار في السنة بعد الضرائب مؤهّل لتقديم طلب للحصول على شقة مدعومة في فيينا في بلد يبلغ متوسط الدخل السنوي الإجمالي نحو 31500 دولار. وتقول غال: «ما يجعل فيينا فريدة، أنك لا تستطيع أن تعرف دخل الأشخاص من خلال النظر إلى عناوينهم». أمر آخر مثير للاهتمام في فيينا، هو أن المعماريين والمحامين وخبراء الإسكان أعضاء في اللجان التي تنظر في مناقصات مشاريع السكن الاجتماعي، ما يؤدي إلى منافسة بين المطوّرين لتقديم بيوت ذات نوعية عالية.
لبنان لا يقدم أيّاً من المتطلبات الثلاثة: لا فرص العمل ولا الأجور اللائقة ولا السكن الميسور التكلفة


خامساً، الإيجارات القديمة هي قديمة ويجب طرحها جانباً. آن الأوان أيضاً لإعادة تنظيم الإيجارات السكنية بنحو يؤدي إلى تحسين الكفاءة الاقتصادية وأيضاً ديمومة السكن والعدالة الاجتماعية، من حيث إعادة التوزيع للأصول واستعمالها التي نتجت من أزمة التضخّم في الثمانينيات. في هذا الإطار، يجب إلغاء القانون الأخير للإيجارات الذي أدّى إلى فوضى، كذلك لا يمكن العودة إلى قانون الإيجارات القديم (أنظر مقالتي الدورادو: أزمة مجتمع الملكية). وهذا الأمر لا يُمكن فصله عن إلغاء قانون 159/92 الذي يشكّل فلسفة ليبرالية للإيجارات لم تأخذ بها أكثر الدول الرأسمالية، والذي شكّل انقلاب 180 درجة على قانون الإيجارات القديم وأتى في الفترة نفسها التي حصل فيها هجوم الرأسمال بعد الحرب، وكان جزءاً من بدء أكبر عملية إعادة توزيع للدخل والثروة في تاريخ لبنان الحديث.
في مقالة للصحافي بيتر فرانكلين من بلاتفورم unHerd، يقول إن الاقتصاديات الغربية لم تستطع أن تؤمن إلا اثنين من متطلّبات الرفاه الثلاثة: التوظيف الكامل، والأجور اللائقة، والإسكان الميسور التكلفة. ففي أماكن مثل أيوا، في الولايات المتحدة، فإنها تؤمن الوظائف والسكن، وفي المدن العالمية المزدهرة توفر الكثير من فرص العمل والأجور الجيدة، أما في معظم أنحاء أوروبا، فهنالك أسعار السكن الجيدة مُقترنة بأجور لائقة، لكن فرص الحصول على وظائف جيّدة صعبة، خصوصاً للشباب. ويسمّي فرانكلين هذه النماذج: «آيوا» و«لندن» و«إيطاليا». وهنا يمكننا إضافة نموذج آخر: «لبنان» الذي لا يقدّم أيّاً من هذه المتطلبات: لا فرص العمل، ولا الأجور اللائقة، ولا السكن المتوافر. لذلك، الوقت لم يعد يرحم الأجيال الجديدة التي يجب أن ترى أن لا «الاقتصاد الحرّ»، ولا كهنته المحليون قادرون على توفير حتى واحدة من متطلبّات الرفاه الاقتصادي هذه التي تعتمد حياتهم المستقبلية عليها.