تفككت القدرات العمالية المنظّمة كثيراً، منذ أن بدأ الهجوم المضاد في السبعينيات، للانقضاض على مكاسب العمال المحققة بعد الحرب العالمية الثانية (في الفترة المسماة الثلاثون العظيمة). هناك شواهد وأدلة على أن الهجوم على النقابات وأطر المفاوضة الجماعية كان له الأثر الكبير في خسارة العمال قسماً من أجورهم لصالح رأس المال. في المنطقة العربية، يعاني العمال من القمع والعنف أكثر من أترابهم في المناطق الأخرى.
أنقر الصورة للتكبير

المنطقة العربية ليست مكاناً صالحاً للعمال. هذا ما خلُص إليه تقرير المؤشر العالمي للحقوق والحريات النقابية لسنة 2018، الصادر أخيراً عن الاتحاد الدولي للنقابات. ففضلاً عن الحروب الأهلية والصراعات في سوريا واليمن وليبيا، والاحتلال في فلسطين، تتميّز المنطقة بأنها الأسوأ في العالم بما يتعلق بحقوق العمّال. وأهم الانتهاكات التي يرصدها هذا التقرير، تتعلق باعتقال النقابيين الناشطين واحتجازهم أو أسرهم لفترات طويلة، بالأخص في الجزائر ومصر، حيث ظهرت محاولات حثيثة لتأسيس نقابات عمالية مستقلة عن النخب الحاكمة (في ظل موجة الانتفاضات العربية 2011)، كما ظهرت بوادر نشوء حركات اعتراضية لدى فئات مهمة من العمال الساخطين من ظروف عملهم القاسية والمجحفة. فعلى سبيل المثال، فضّت الشرطة المصرية بعنف اعتصاماً نظّمه العمّال في معمل أسوان للإسمنت، مطالبين بتحسين إجراءات السلامة بعد أن تسبب اندلاق مواد كيميائية خطرة بإصابات بالغة لخمسة عمّال وقتل عامل آخر. علاوة على ذلك، تم اعتقال العمّال المضربين بتهمة التحريض على الإضراب وتعطيل العمل.
يجري توجيه هذا النوع من العنف ضد العمال في أكثرية الدول العربية. ليس العنف البوليسي فحسب، بل العنف القانوني، فالكثير من العمال يجري استبعادهم من أي حماية توفرها قوانين العمل، ويعاني العمال المهاجرين من تمييز قاس ضدهم، ولا سيما في بلدان الخليج ولبنان. وتتصدّر السعودية سجلّ الانتهاكات لحقوق العمال والحريات وتقوم السلطات بتسويغ الممارسات الاستغلالية للعمال المهاجرين تصل الى العمل الجبري وتقترب من العبودية. في عام 2017، تم الحكم على 49 عاملاً بـ300 جلدة و4 أشهر من السجن لمطالبتهم مجموعة «بن لادن» بتسديد أجورهم غير المدفوعة.
هذه الأمثلة لا تجعل من المنطقة العربية استثناءً، إنما تمثل حالة أكثر تطرفاً من غيرها من المناطق.
يحدد التقرير سمات عامّة توصّف الانتهاكات المتزايدة للحقوق العمّالية حول العالم باختلاف المناطق. ففي بلدان الجنوب كأميركا اللاتينية، أفريقيا وآسيا، يواجه العمال والنقابيون خطر السجن والاعتقال وحتى الموت. في كولومبيا قتل 19 نقابياً في 2017، وفي إيران يستمر سجن النقابيين في ظروف قاسية تؤدي الى الوفاة أحياناً. في العديد من البلدان يتم ملاحقة وتخويف وقمع النقابيين والناشطين العماليين بشكل ممنهج. كما أن 65% من البلدان تمنع بعض الفئات من العمال من تأسيس والانضمام الى النقابات، كما في بعض بلدان الخليج، حيث لا يحق لأي عامل تأسيس نقابة، أو كما هو الحال في لبنان، حيث يُحرم عمال القطاع العام وعاملات المنازل والعمال الأجانب عموماً من تنظيم أنفسهم في نقابات. أما في بلدان الشمال، أي أوروبا وأميركا الشمالية، فيتعرّض فيها العمال لانتهاكات من نوع آخر، تتعلّق بالانقضاض على المكتسبات السابقة وتقويض أسس المفاوضة الجماعية. ففي فرنسا تم تعديل قانون العمل بدون مشاورة النقابات العمالية. وبشكل عام، فإن 58% من بلدان أوروبا انتهكت الحقوق المتعلقة بالمفاوضة الجماعية و75% منها انتهكت الحق في الإضراب.
لكن، السمة الأبرز في الاتجاه الذي تنحو إليه حال الحقوق العمالية في العالم هو التدخل المتزايد لصندوق النقد الدولي في تعديل قوانين العمل واتفاقيات العمل الجماعي. ففي رومانيا، فرض الصندوق إصلاحات على تشريعات العمل لإدخال المزيد من المرونة في الاستخدام والأجور، وتعني «المرونة» بكل بساطة إلغاء القيود المفروضة على صرف العمال من دون تعويضات وتشجيع عقود العمل المؤقتة أو العمل الجزئي أو السماح بتشغيل العمال ساعات أطول بأجور زهيدة. وتم أيضاً إدخال تعديلات على شروط تأسيس النقابات في دول كثيرة، ما حرم مليون عامل من هذا الحق، نظراً إلى استحالة توفير الشروط الجديدة المفروضة عليهم. كما فرضت مجموعة «ترويكا الدائنين» (صندوق النقد والاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي المركزي) على البرتغال واليونان إلغاء العديد من عقود العمل الجماعية، فانخفض عدد العمال الذين يقعون تحت تغطية هذه الاتفاقيات بأكثر من 80% في البرتغال، وانخفض عدد الاتفاقيات الجماعية من 65 إلى 14 اتفاقاً في اليونان.
وضع العمال سيئ في كل العالم، هذا ما يخبرنا به تقرير الاتحاد الدولي للنقابات، والوضع الأسوأ هو في الدول العربية. وبموازاة كل ذلك، يتدنى الانتساب الى النقابات في كل مكان، وتخوض النقابات في البلدان التي تتسم بحركة نقابية قوية معارك بمعظمها تبدو خاسرة. كذلك، يمثّل ازدياد العمل اللانظامي في كل مكان وتنامي اقتصاد المنصات كأوبر وغيرها تحديّات كبيرة أمام العمال وحركتهم. وفي المقابل تزداد قوة وسطوة رأس المال من حيث قدرته على تعديل قوانين العمل وتقويض الحقوق العمالية.
* للتواصل: [email protected]