أولاً: إن أزمة التشغيل في لبنان لا تتوقف (كما يظهر من الأدبيات الرائجة حول الموضوع) عند معدلات البطالة السافرة المرتفعة، وإنما تتجاوزها لتكون، في شكل عام، عبارة عن سوء استخدام وهدر متماديين لرأس المال البشري في هذا البلد، مصدرهما، إضافة إلى معدلات البطالة السافرة العالية، انخفاض معدلات النشاط الاقتصادي عند السكان، وخصوصاً عند النساء على الرغم من ارتفاع مستواهن التعليمي، ودفق الهجرة الكثيف نحو الخارج الذي يتناول في شكل خاص فئة الشباب ذوي المستويات التعليمية والمهارة المرتفعة، واتساع دائرة التشغيل الناقص (العمل الجزئي، البطالة المقنّعة، عدم استخدام المهارات المكتسبة في ممارسة أعمال مناسبة...).

ثانياً: إن أزمة التشغيل هذه ليست من النوع الظرفي أو الطارئ أو الموضعي الذي يرتبط بمرحلة زمنية معينة أو بحدث ما، وإنما هي أزمة بنيوية مستمرة أخذت تتفاعل منذ انتهاء الحرب الأهلية.
ثالثاً: على الرغم من وجوه الخلل الكثيرة والمهمة أحياناً التي تعانيها سوق العمل، إن كان من ناحية العرض (أنظمة التعليم والتدريب) أو من ناحية الطلب (ضعف النمو الاقتصادي في شكل عام)، أو من ناحية آلية اشتغال هذه السوق نفسها (وقصور آليات المواءمة بين العرض والطلب...)، إلا أن الطبيعة البنيوية لأزمة التشغيل في لبنان تأتي في شكل رئيسي من نمط النمو الاقتصادي الذي عرفه لبنان منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ويمتد بجذوره إلى مرحلة ما قبل الحرب الأهلية. أي أن هذه الأزمة ترتبط في شكل عضوي بآلية اشتغال الاقتصاد اللبناني التي يحركها عاملان رئيسان هما: التدفقات المالية من الخارج، وسياسات الاقتصاد الكلي (الماكرو اقتصادية) الليبرالية التي اعتمدت ورافقها منسوب عالٍ من الهدر والفساد في استخدام الموارد المالية والطبيعية. هذه الآلية عملت في نهاية المطاف، من جهة على تضخم القطاعات الاقتصادية المتدنية الإنتاجية، وعملت من جهة ثانية على تهميش القطاعات الاقتصادية العالية الإنتاجية، وخاصة قطاعات الإنتاج السلعي القادرة على خلق فرص تحمل تتناسب مع مؤهلات أفواج الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
رابعاً: إن المعالجة الناجعة للأزمة، ولكونها أزمة بنيوية تطاول نمط/ نموذج الاقتصاد اللبناني، لا يمكن أن تأخذ مجراها العملي فقط من خلال السياسات ذات المنحى النيوليبرالي والمسماة «سياسات التشغيل»، أي مجموعة البرامج التي تسعى إلى ما يسمى «تنشيط سوق العمل»، حتى لو واكب هذه السياسات، في الحالة اللبنانية، عملية إصلاح لأنظمة التعليم والتدريب وإجراءات لتنظيم الاعتماد على اليد العاملة غير اللبنانية. فهذا كله، على أهميته، لا يمكن أن يساهم بمعالجة الأزمة ما لم يوضع في سياق وخدمة استراتيجية تهدف إلى التحوّل من نمط الاقتصاد السائد إلى نمط آخر بديل، يكون قادراً على إطلاق عملية نمو اقتصادي مستدام على قاعدة بنية إنتاجية محلية أكثر صلابة وأقل تعرّضاً للصدمات الخارجية، وتعتمد في شكل رئيسي على الموارد البشرية والمالية والطبيعية المحلية وتتمتع، في الوقت نفسه، بقدرة تنافسية عالية.
ترتبط أزمة التشغيل بآلية عمل الاقتصاد اللبناني إذ تحرّكها التدفقات المالية وسياسات الاقتصاد الكلي الليبرالية

ما يعني، انطلاقاً من أوضاع لبنان الخاصة، لناحية حجمه الديمغرافي الصغير والارتفاع النسبي لمستويات التعليم والمعيشة فيه، أن تصبح المعرفة العلمية والتكنولوجية المتقدمة عامل الإنتاج الرئيسي في الاقتصاد اللبناني. أي أن المدخل الضروري لاستراتيجية الخروج من أزمة التشغيل في لبنان هو أن يتحوّل اقتصاده إلى ما أصبح يُعرف بـ«اقتصاد المعرفة» الذي يقوم على إنتاج ونشر واستخدام المعارف العلمية والتكنولوجية المتقدّمة، على نحو كثيف في مختلف القطاعات الإنتاجية.
خامساً: إن الاستراتيجية العتيدة للخروج من الأزمة، في ضوء ما جرى من تشخيص لطبيعتها والمدخل الضروري لمعالجتها، يجب أن تتضمن أربعة محاور رئيسة هي:
1- تعزيز مرتكزات اقتصاد المعرفة.
2- دعم وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وخصوصاً المؤسسات التكنولوجية الناشئة.
3- إصلاح سياسات الاقتصاد الكلي.
4- تطوير سياسات سوق العمل.
سادساً: إن ما ينقص لبنان من أجل التحوّل إلى اقتصاد المعرفة والأخذ بالاستراتيجية المقترحة للخروج من الأزمة ليس الموارد البشرية والمالية والطبيعية، وإنما هو تحديداً، الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة كمخطّط وموجّه ومحفّز وناظم للفعاليات/ النشاطات التي يجب أن يقوم بها كل من القطاع العام والقطاع الخاص، في كل من المحاور الأربعة للاستراتيجية العتيدة. فكما أن التحوّل إلى اقتصاد المعرفة يشكّل المدخل الضروري لأي استراتيجية ناجعة في معالجة أزمة التشغيل، كذلك فإن تحوّل الدولة في لبنان إلى دولة «تنموية» هو المدخل الضروري لنجاح التحوّل والاستراتيجية معاً. وهذا بدوره لا يمكن أن يتحقّق في ظل النظام اللبناني الحالي القائم على مركب الطائفية السياسية والليبرالية الاقتصادية المركانتيلية.
*أهم نتائج البحث الذي أعدّه د. نجيب عيسى بعنوان: «سوق العمل وأزمة التشغيل في لبنان – اقتصاد المعرفة كمدخل لاستراتيجية الخروج من الأزمة». صدر حديثاً عن دار الفارابي