يخترق موكب السيارات الأسْوَد الطريق الترابيّة المتعرِّجة، تهتزُّ السيَّارة الرّباعيّة الدَّفع عند مَطبِّ هنا أو حفرة هناك وتُتابع السَّير صعوداً. على الطريق الطويل، لا يُسمَع سوى صوت العجلات فوق الحصى ونشيد قديم للمقاومة تقول بعض كلماته «إمضِ ودمِّر عروش الطغاة». يَسترجع الرَّجُل بجانب السّائق صُوَراً من زمن البدايات الجميل. يُخبِر «رفيقه» أنّ هذه الجرود والممرَّات كانت امتداداً طبيعياً لمُعسكرات التدريب التي انطلقت منها التشكيلات الأولى للمقاومة الإسلاميّة قبل خمسة وثلاثين عاماً. في الأشهر الماضية وَضَع مقاوِمون، على جانبَيْ الطّريق، «إشارات مروريّة» خاصّة يفهمها الوافدون الجدد. يحفظ السّائق طريقه غيباً، لكنّه يقود السيّارة بعينين مفتوحتين على كلّ الاحتمالات. يُنسِّق عبر الجهاز مع مالك وعمّار وأبو الليل وآخرين، التعليمات الموضوعة من «القيادة» لحفظ أمن الموكب. تتشابه الجغرافيا على طول الحدود السورية اللبنانية المتداخلة وغير المُرسَّمة.
يُوحِّدها البنفسج النابت في الأرض اليبَاس والتاريخ المشترك وفاتورة الدّم الباهظة. تبسُط الشّمس أشعَّتها على الجرود والرؤوس التي احترفت لعبة «الضوء والظل»، ولا يخفِّف من حدَّتها سوى موجات الهواء المتواصلة على ارتفاع أكثر من ألفَيْ متر قبالة «أرض الكِشك» التابعة لجرود عرسال.
إلى الشَّمال الشرقي تبدو تلال موسى والثلاّجة والهرم وغيرها من المرتفعات التي تكشف مساحات واسعة وبعيدة من الأراضي اللبنانية والسورية على السواء. يقول العارفون إن معارك التلال والمرتفعات، تُعطي الأفضليَّة دائماً للمواقع الأكثر ارتفاعاً، لذا فإن السّيطرة على تلك التلال كانت (وستكون) لها دور مؤثّر في مسار المعركة القائمة الآن في تلك المنطقة، على عكس ما روَّج البعض من أنها مجرّد تلال فاقدة لأيّ قيمة استراتيجيّة.

يُوحِّد البنفسج الحدود
السورية ـ اللبنانية المتداخلة
وغير المُرسَّمة

في الجرود التي تشبه لون وجوههم، لا يعيش الرِّجال ترَف الوقت أو وهم «النوم على حرير انتصارات تم تحقيقها». كلٌّ يعمل بحسب اختصاصه، في «العسكر» كما في «القطاعات الرديفة» الأخرى. في المواقع الخلفيّة تتواصل عمليات التحصين والتثبيت، فيما الأصبع على الزّناد في المواقع الأماميّة التي تنتظر إشارة البدء بالتقدّم. رجال وشباب من أعمار متفاوتة، ابن الخمسين سنة جنباً إلى جنب مع ابن العشرين سنة، وكلُّهم مشاريع شهداء «نذروا حياتهم لحماية أهلهم وأرضهم». بعض رفاقهم «مُنحوا شرف الشهادة» ومِنهم مَن ينتظر. يقول هؤلاء إنّهم يتنافسون للتقدّم إلى الصفوف الأمامية عند وقوع المواجهات المباشرة ويبدون «بسَالة نادرة». في أوقات الاستراحة القليلة يتذكّرون الحكايات التي تركوها في «السّهل» خلفهم أو في قرى الجنوب البعيدة، ويحملون لعائلاتهم عند العودة حكايات وصوراً جديدة من أرض المعركة. «فوق» لا يهوى الشباب عراضات لا فائدة منها، لكنَّهم يلتقطون لأنفسهم صوراً من الأرض التي ارتوت بدماء رفاقهم. يُمازح أحدهم رفيقاً له بالقول: «بس استشهد خدلي هيدي الصورة». يسأل مقاتل عن «الحاج غالب» فيُقال له: «أخد مأذونيّة من يومين لإنو عمتو توفّت». وأشتر؟ «عم بيصلّي». يدعو شاب آخر «الضيوف» إلى طعام الغداء في الخيمة المجهّزة ببعض «اللوجستيات» الضرورية... لـ»المجدَّرة» طعمٌ آخر في الجرود.
«لماذا أنتم هنا يا شباب»؟ لا يُفاجِئ السؤال المقاتلين الذين لا يطلقون في العادة تصريحات للإعلام. «لسنا هنا لندافع عن تلال وصخور لا قيمة لها، بل لدحر الإرهاب التكفيري عن الحدود». يقول مقاتل، فيما يعقّب رفيق له بالقول: «ندافع عن عرسال واللبوة وراس العين وبعلبك وبيروت»، مشيراً إلى «أنّ أهلنا في عرسال هم أوّل المستفيدين من إزالة هذا الخطر». الحديث عن قرب مع «الشباب» يؤكّد أن هؤلاء ليسوا من هواة الحروب العبثيّة حتّى لَو أصرّ البعض على وصفها بذلك للتقليل من شأن «إنجازاتهم». يقول أحد المقاتلين: «الصورة واضحة لنا منذ البداية، أي عاقل يصدّق بعد أن الحرب في سوريا الآن هي حرب بين معارضة ونظام؟»، مضيفاً: «لا نريد الحرب ولكنها فُرِضت علينا، نحن أيضاً نُحبّ العيش بسلام لكنّنا لن نتخاذل عن القيام بواجبنا».
يُدرك هؤلاء أنَّ الحرب تصبح استنزافاً في حال طال أمدها، مع ذلك يؤمنون بأن ما يقومون به سيعطي ثماره لاحقاً: «مستعد أن أبقى هنا عشر سنين، المهم أن يعيش أولادي بأمان». والمقاتلون الذين يحزنون كثيراً لخسارة أيّ واحد منهم في المعركة، يعرفون أن «تضحيات أكبر» بانتظارهم. يشير القياديّ الميداني في الموقع الذي يُطلق عليه «تلَّة الراية» إلى «أنَّ تنظيم داعش على وجه الخصوص رسم لنفسه صورة أسطوريّة في أذهان الناس اكتسبها من خلال ترويع المدنيين الأمر الذي أكسبه كثيراً من المعارك من دون مقاومة». يلفت القيادي نفسه إلى أن مقاتلي داعش ليسوا بهذه الصورة تماماً في الميدان. «هم ليسوا مزحة إطلاقاً، ولكن في معظم الأحيان عندما تتمُّ مواجهتهم في «الموجات الأولى» فإن عملية هزيمتهم تصبح أسهل بعد ذلك». بنظره فإنَّ كسر الصورة النمطيّة لـ»داعش» مسألة ضرورية كما «أن هزيمتهم ممكنة وغير مستحيلة». وماذا عن «النصرة» والمجموعات المسلّحة الأخرى؟ «لمعلوماتك فإن بعض المجموعات ومنها ما هو تابع لـ»لجيش الحر» تبدي ثباتاً أكثر في المواجهات من داعش»، يقول الرَّجُل المتمرِّس في شؤون الميدان لسنوات طويلة.
مِن بعيد، يُسمَع صوت رشقاتٍ ناريّة متقطّعة. يقوم الرّجال بتعزيزات إضافية في الموقع المجاور. تجول كاميرا المقاومة على الوجوه لـ»أرشَفة الحدث». يحين موعد «المفاجأة» التي حضّرها «الشّباب» لضيوفهم: طائرة الاستطلاع المسيَّرة. لم يعد «سلاح الجو» هذا سِرّاً للخصوم، في الوقت الذي يتحدّث فيه الرجال عن مفاجآت أخرى في المرحلة المقبلة. من على ارتفاع يقارب الثلاثمئة متر تعود الطائرة محمَّلة بصور لبعض مواقع «المجموعات المسلّحة»، بينما تظهر، عبر المنظار، بساتين الكرَز في جرود عرسال مُنتظِرةً موسم القطاف...