بعد دقائق من آذان الفجر، تُسمع في إحدى الزاويا في منطقة «الزيدانية» معزوفة من بطولة صرير الحديد المعلن عن فتح «مطعم السوسي» أبوابه. قرقعة القدور المحملة بالفول والحمص، ولهيب النار المضبوط حتى تنضج الحبوب بعد سلقها لساعات وتغيير مائها، ودق الثوم لتتبيلها، تنتظر استيقاظ بيروت من سباتها، لتملأ بطنها بــ»مسامير الركب»، وتنطلق الى مشاريعها اليومية.
حكاية «المطعم» الشبيه بدكان، حيث تغيب أي مظاهر تزيين أو «ديزاين»، وتلعب الأطباق المقدمة بود على طاولات بلاستيكية بيضاء دور البطولة الحصرية، تعود إلى زمن الثلاثينيات حين قصد الحاج محمد السوسي (أبو محمود) بيروت من صيدا وافتتح في شارع سعد زغلول خلف مبنى البلدية دكاناً لتقديم الفول والحمص المطهويين. حضنت بيروت الحاج، فاختارها طوعاً مدينته، وتسجل في دائرة النفوس فيها.
في بقعة كانت تشهد قبل الحرب على تمركز بائعي الخضر والعمال والموظفين الرسميين والنواب، وغيرهم في وسط بيروت، استقبل السوسي كل فئات المجتمع، ومرّ بدكّانه الزعيم معروف سعد وعبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسي ومحمد سلمان...
كان الرجال يمسكون بيد أرغفة الخبز «الماوي» السميكة والصغيرة الحجم والساخنة، التي يزوّد «فرن معتوق» في باب ادريس الحاج أبو محمود بها، ويأكلون بالثانية بسرعة، وهم واقفون خلف زوجين من الرفوف في مساحة الدكان المحدودة، حتى يعلن الحاج من العلية حيث يحضّر الطعام «نفوق» الفول والحمص عند العاشرة. ثم، يستبدل السمك المشوي و»البزري» المقلي و»المتبل» بالحبوب، فتتكثف الأرجل بين الرفين وخارج المكان، ليعلن الحاج مجدداً عند الواحدة النصف عن موعد الإقفال.
في محل السوسي الجد، لم تستخدم المحارم الورقية، أو تقدّم المشروبات الغازية مع الطعام، الذي كان يؤكل باليد بدون معية الملاعق، وكان الأحد يوم العطلة الأسبوعي. وكان الفول المدمس مرادفاً لعائلات السوسي ومروش والعجمي حينذاك.
بعدما «خنقت» الحرب البلد وتوفي الحاج، انتقل ابنه البكر محمود وحفيده راجي كبي الى «الزيدانية» لمتابعة إطعام الأفواه الراغبة بمذاقات مالحة وحامضة ولاذعة، حتى هال المراهق أحمد مشهد الجموع في محلّ والده محمود، فأدار ظهره للمدرسة والتحق بالمسير.
وعلى غرار الوالد، يستقبل أحمد السوسي زائره بلطافة مدعاة للثناء، فيما يهتم قريبه كبّي بطلبات الزبائن. يتواصل الرجلان مع بعضهما، بلغة سلسة مؤلفة من مفردات التكاتف وتقدير الإرث العائلي والبعد عن التكلّف.
«الفول أكلة شعبية تتطلب غوص اليدين بالطبق، بعيداً عن الشوكة والسكين، ولا تحتاج إلى مظاهر البهرجة التي نراها في المطاعم المفتتحة حديثاً في هذا الإطار»، يقول السوسي. يضيف: «بين الأمس واليوم، لم تعد أطباقنا تقتصر على الحبوب، بل أضفنا إلى لائحة الطعام بيض الغنم والبيض بقورما والسودة والنخاعات، علماً أن الطلب على اللحم بات أكبر مقارنة بالأمس، كما أن زبائننا لا ينتمون الى فئة الذكور حصراً كما في زمن جدي، بل نستقبل الصبايا والعائلات اليوم، وكلهم يستغرقون وقتاً طويلاً نسبياً في فطورهم، وخصوصاً أيام الأحاد. لكن أبقينا على تقليد غلق الأبواب عند الثانية من بعد الظهر».
في أصول طبق الفول الشهي تُستحضر مصر، وفي الفوارق بين المطبخين المصري واللبناني في هذا الخصوص، نعرف أن الليمون الحامض لا يضاف إلى الطبق المصري، فيما هو يشكل مكوناً رئيساً في تتبيلة الفول اللبنانية، ولو أن الذواقة يستسيغون طعم النارنج (أبو صفير) في التتبيلة الخاصة بــ»مطعم السوسي». ونعرف أيضاً أن بعض معدّي هذا الطبق يضيفون الكزبرة إليه في صيدا. أمّا بشأن الحمص، فإن الخليط المضاف إلى حباته كان عبارة عن الثوم والملح والكمون، قبل أن تدخل الطحينة مقاديره، وأن يدعى «مسبحة»، مع الإشارة إلى أن عادة إضافة الطحينة إلى الحبوب مأخوذة من فلسطين وسوريا.
شهرة السوسي وصلت شبكة «سي أن أن» الأميركية، التي صنّفت فطوره الأفضل من بين 100 وجبة فطور في العالم عام 2013، وساهمت بدون شك في ازدياد اقبال السائحين إليه. هؤلاء ينتمون إلى جنسيات أوروبية، وخصوصاً ألمانية، وأميركية، وفئة الشباب راهناً.
يأتي «الزيدانية» توقاً بطعم الفول المدمس الرئيس نجيب ميقاتي متخلياً عن موكب رئاسة الوزراء وراغب علامة وأحمد دوغان. وكان أن فاجأ الوزير علي حسن خليل ذات رمضان المالكين، اللذين يشددان على انهما يهتمان بجميع الحضور سواسية، في المكان الذي لا يستعين بخدمة النوادل، ويعلّقان أهمية كبيرة على جودة البضائع والكرم للبروز.
تبدو آثار محمد السوسي الجد والمؤسس محفوظة بعناية في أجيال ثلاثة... أما بعد فرهن بالوقت، وبالتمني بعدم زوال العناوين البيروتية التراثية.