تعدّ سوق الألبسة المستعملة، المعروفة بـ«البالة»، جزءاً من الثقافة الاجتماعية في لبنان. يجد فيها الزبون كلّ ما قد يخطر في البال من أنواع الملابس: الرسمية والعادية، الصيفية والشتوية، الخارجية والداخلية، وصولاً إلى ثياب السباحة والأحذية وحتى البياضات. لكن اللافت أنه رغم إقبال المواطنين عليها، يفضّل كثيرون إبقاء الأمر طيّ الكتمان. قلّة هي من توافق على الحديث عن هذه التجربة، مثلما فعل غازي الحلبي مستنكراً عدم رغبة البعض في الاعتراف بالأمر: «أنا عم إشتري من عرق جبيني. مش أحسن ما أسرق لأشتري سينييه (ماركة) من الشانزليزيه».
للبالة مواسم يزداد فيها الإقبال عليها، مثل بدء المدارس أو قدوم الأعياد، لكن التجار يحكون عن تراجع في الإقبال في السنوات الأخيرة. وفيما يردّ البعض الأمر إلى ضيق الأحوال الاقتصادية، يتحدّث آخرون عن «حالة كساد في أوروبا أدت إلى فائض في السوق المحلية وهذا الأمر أضرّ كثيراً بالمستوردين، ولكنه خدم في المقابل المستهلكين بسبب انخفاض الأسعار بحكم زيادة العرض في السوق».
تتنوّع المصادر التي تأتي منها هذه الملابس. أكثرية الشحنات تصل من أوروبا، وكذلك من أميركا الشمالية. ويقول البائع عبد الله العبد الله أن «البضاعة الأوروبية أفضل من الأميركية، لأن الأميركي يبقي القطعة في حوزته إلى أن تخرب». أما ما يفضله هو «السويسري والدانماركي». ومن هذا المنطلق يتحدّث عن وجود «أربعة مستويات في البالة وكلها تأتي الى لبنان»، خصوصاً إذا أضفنا إليها «المنافس الصيني». ويؤكد زملاؤه من التجار أن نوعية البضاعة تتحدّد على ضوء موقع المحل ووضع صاحبه الاقتصادي. فبعض المحال تكتفي بعرض الملابس الجيّدة نسبياً، فيما لا يتردّد آخرون في عرض كلّ ما يشترونه على قاعدة أن المحتاج تهمّه السترة، وليس النوعية. ومجدداً، نستمع إلى النصيحة نفسها «الملابس الأوروبية أفضل وأكثر جودة من الصيني الذي يصدر الى بلادنا، فهي مصنوعة من البترول أما الأوروبي نسيج وجلد».
ويرى أحد مستوردي الملابس الأوروبية عادل شفشق أن «ألمانيا تعدّ المكان الأفضل لاستيراد الملابس والأحذية منها بسبب ضبط الدولة للعملية وتنظيمها، إذ تقوم بعض الجمعيات الخيرية والكنسية بالحصول عليها على سبيل الهبة، ومن ثم تقوم المصانع بتعقيمها وتوضيبها وبيعها للتجار استعداداً لتصديرها إلى الخارج بحاويات ضخمة ومرصوصة تصل الى لبنان ويتسلمها مستوردها بموجب إشعار وسندات رسمية ومانيفست إضافة إلى شهادة الإيزو للتعقيم والتبخير».

تجار كبار... وبسطات

هذه البضائع التي تلقى رواجاً لها في لبنان، سمحت لبعض التجار الكبار بتوسيع أسواقهم والانتشار داخل وخارج لبنان. فهذه شركة شفشق مثلاً تعدّ وكيلاً لكبرى الشركات الألمانية وتمتلك محال في طرابلس وبيروت والبقاع لتكون أقرب من زبائن الجملة وتصدّر الملابس إلى الأردن وأفريقيا وروسيا وبيلاروسيا بسبب التخطيط المنظّم للعمل.
أكثرية الشحنات تصل من
أوروبا وأميركا من دون غياب المنافس الصيني
في المقابل، يعمل تجار أصغر في هذه المهنة من دون أن يتجاوز حجم أعمالهم «البسطة» التي تؤمن لهم القوت اليومي. يقول أحد أصحاب البسطات عنها «هيدي مهنة بتستر وما بتغني»، في حين تؤكد سيدة أخرى: «أنا تاركة بيتي وولادي ونازلة لهون حتى ما نمد إيدنا للسياسيين والناس»، وتعلّق ثالثة من أصحاب المحال الصغيرة «تاجر البالة كان يقال له مليونير أما اليوم فهو مديونير».
وكما في كلّ قطاع، لا يخلو الأمر من المنافسة، إذ يشكو أصحاب المحال «الرسمية» من البسطات المنتشرة التي تزاحمهم، لأنهم يدفعون الضرائب للدولة. فيقول أحدهم: «الدولة مصابة بسرطان الفوضى وعتبنا على الدولة يلي ما بتحمينا» فيما يطالب آخر بإنشاء نقابة تدافع عن حقوق التجار وتحسن أوضاعهم.

زبائن الملابس «الفاخرة»

كما الباعة، يختلف الزبائن. إذ يشمل جمهور البالة العريض مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية من الفقراء والأغنياء. ولن يكون عليك صعباً ملاحظة ذلك من خلال السيارات التي يركبونها أو تسريحات الشعر والملابس التي يرتدونها، وبالتالي يمكنك الاستنتاج أن أسباب الإقبال على «البالة» تختلف بين طبقة وأخرى. فالفقراء يقصدونها لشراء قطع «تسترهم» وتقيهم برد الشتاء، لتجديد مظهرهم أمام أعين الناس، أو كما تقول إحدى الزبائن «يا ابني أنا عندي ثمانية أولاد أيتام مش قادرة طعميهم... إذا بدي روح ع سوق الجديد ما في قطعة أقل من ثلاثين ألف ولكن هون بشتري القميص بألف أو ألفين وكل يوم بشتري لواحد».
وتلفت سيدة أخرى إلى أنها تقصد «البالة» لشراء أحذية لأبنائها، فالقطع الأوروبية المستعملة «أصلية وبتضاين». وبالتالي تجمع هذه القطعة بين الرخص والصلاحية الطويلة. يقول حسين: «اشتريت جينز وجاكيت ماركة بستين ألف ليرة، وهما جديدان تقريباً. في حال كنت سأشتريهما من محل عادي كنت سأدفع مئتي دولار على الأقلّ».
في المقابل، يؤكد أحد التجار وجود ما يسميه بـ«زبائن القطعة المرتبة من الميسورين الذين يشترون القطع الجديدة والماركات المشهورة». ويحتفظ بعض الباعة بأرقام بعض زبائنه من هذه الفئة ويتصل بهم فور وصول بضاعة جديدة إليه أو عثوره على قطعة مميزة «وبالتحديد الجلود والفرو، فهم يبحثون عن القطع النادرة».
الزبائن الميسورون يبحثون
عن القطع النادرة خصوصاً
الجلود والفرو
الطريف أن هؤلاء الزبائن يعانون من حساسية مفرطة من أي شيء يمكن أن يكشف هويتهم الاجتماعية الحقيقية، وبالتالي فإن تجنب الصحافة واتخاذ الاحتياطات كافة ورفض الرد على أي سؤال واجبة. فهم هنا حسب قولهم «مرقة طريق وعم نضيّع وقت». وتشبّه صاحبة أحد المحال بائع «البالة» بالطبيب النفساني، فتقول: «أحياناً عندما يرى بعض زبائننا معارفهم يقولون نحن هنا لنشتري للخادمة». ونظراً لهذه الحساسية يلتزم الباعة الصمت تجاه زبائنهم.

الأخطار

يصدر الكثير من الأطباء التحذيرات من إمكان انتقال بعض الأمراض المعدية بواسطة هذه الملابس بسبب سوء التخزين، أو طول فترة النقل بالحاويات على درجة حرارة تشجع على تكاثر الباكتيريا وكذلك ظروف عرضها للبيع وتعرضها للشمس والأمطار. لذلك يفضل أخصائي الأمراض المعدية، الدكتور جهاد فلو، عدم شراء هذه الملابس لأنه «من غير المرغوب لبس أي شيء سبق لآخر ارتداؤه». ولكنه ينصح في المقابل المستهلكين لها برش الملابس بمبيد للحشرات ووضعها في كيس نفايات وربطها جيداً لأربعة وعشرين ساعة ومن ثم غسلها على حرارة مرتفعة. في المقابل يردّ عادل شفشق على هذه الادعاءات بالقول إن هذه الملابس التي تستورد الى لبنان تباع نفسها في ألمانيا بالتأكيد لو هناك خطر لمنعت هناك.
يبقى أن هذا القطاع يوفّر عملاً لقطاع آخر هو محال «الصباغة و التنظيف» التي تعطي الملابس المستعملة مظهراً جديداً. ويتحدث صاحب أحد هذه المحال بأنه يتسلم الكثير من قطع الملابس المستعملة، فيقوم بتنظيفها وغسلها ومن ثم تنشيفها وكيّها على البخار لتعود إلى سابق عهدها «ولا يعود بإمكانك تمييزها عن الجديدة»، وذلك مقابل بعض الألوف من الليرات، لافتاً إلى أن الجلديات والفرو والبياضات تحتل المقدمة.