قبل 45 عاماً، أنجبت نهاد وليدها. أرادت له أن يصير قاضياً حتى «يُنصف الناس ويرفع الظلم عنهم». بعد 26 عاماً على الزج به في معترك الحياة، كان للأم، التي غادرت الدنيا لاحقاً، ما أرادت. أصبح «مشروع حياتها» قاضياً... اسمه جون القزي.كان بإمكان صاحب هذا الاسم أن يكون كأي قاض آخر، يزاول عمله بشكل طبيعي، من دون تهافت هيئات المجتمع المدني ووسائل الإعلام عليه... لولا جرأة تبعها ظلم.
فقبل أكثر من عامين، تجرّأ الرجل على «النظام»، وأصدر حكماً قضى بإعطاء الجنسية اللبنانية لأولاد قاصرين من أم لبنانية وأب أجنبي، مع تقييدهم على خانة والدتهم في سجل الأحوال الشخصية. عُدّ الحكم سابقة في تاريخ القضاء اللبناني. ولكن، وفيما كانت الفرحة تعمّ قلوب المعنيين والمتابعين، كان الأسى يجتاح نفس القاضي. ضُرب عليه في بيئته ما يشبه «الحرم» الديني. فقد ارتكب «جرماً» (لبنانياً بامتياز) إذ حكم، هو المسيحي، لأولاد سيدة مسلمة بحق حمل جنسية أمهم. ففي لبنان، بلد الحرف وعشتروت، تعطي الأم ابنها لحمها ودمها، لكنها تبقى أعجز عن إعطائه بطاقة جنسية. ولأن حكمه، الصادر بعد «وجدان وضمير» واجتهاد، عُدّ «اجتراء» على أعراف طائفية ضاربة في عمق بلاد الأرز، كان لا بد من معاقبته حتى يكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه «الخروج على القانون»!. عصفت به التشكيلات القضائية فأزيح عن قوس محكمته، ليُنقل من رئاسة محكمة الدرجة الأولى (الأحوال الشخصية) في جبل لبنان إلى موقع مستشار في محكمة التمييز المدنية في بيروت. ولمن لا يعرف طبيعة عمل المحاكم، فإن المستشار هناك يُستشار شكلاً، أما الأخذ بمضمون مشورته فيبقى بيد رئيس المحكمة. هكذا، أصبح ممنوعاً على أمثال القاضي القزي أن يصدروا أحكاماً في قضايا «خلافية». عضّ على جرحه ومضى مستشاراً. تحمّل ألم «الإقصاء». لكن ما لم يقدر على تحمّله هو تخلّي القضاء عنه أمام سهام السياسيين، ما ترك في نفسه «مظلومية» أصبحت قرينة لاسمه. خرج آنذاك أحد النواب ليشتمه في وسائل الإعلام، فانتظر من «السلطة القضائية» أن تدافع عنه، أو بالأحرى «ليدافعوا عن أنفسهم وكرامة القضاء». خاب أمله بعد «صمت قبور» مرجعيته القضائية. طُعن في صميمه، وأحسّ يومها بأنه أصبح «يتيماً للمرة الثانية في حياته».
منحته إحدى الجمعيات الحقوقية جائزتها السنوية عن حقوق الإنسان، لأحكام كثيرة أصدرها «بجرأة»، أحدها يتعلق بقضية تبنٍّ، فأحيل بعدها إلى هيئة التفتيش القضائي «لينال عقوبة». مقربون منه يؤكدون أنه لا سبب جوهرياً وراء هذه الإحالة سوى «غيرة» بعض كبار القضاة المسؤولين الذين «لم يستطيعوا تحمّل حب الناس لقاض هو دونهم في الدرجة القضائية، وليس صحيحاً ما قالوه عن أن السبب هو ما جاء في كلمته التي ألقاها في حفل تكريمه».
يتردد في أروقة العدلية، على لسان بعض المتابعين، أن القزي ينوي ترك العمل القضائي، لأنه «ما عاد يجد نفسه فيه، ولا ينوي الاستزلام لدى أي مسؤول سياسي». ينقلون عنه هذه الرغبة، رغم قرب موعد التشكيلات القضائية المنتظرة، التي يمكن القائمين عليها إنصافه أو الإمعان في ظلم ارتكبه بعض السابقين وقليل من الحاضرين. ويُنقل عنه قوله: «خسرت أموراً، ربما، لكنني ربحت ضميري. عندما أخلد إلى النوم كل ليلة، أسأل نفسي إن متّ ولم أستيقظ هل فعلت شيئاً صالحاً في حياتي، أو على الأقل هل سعيت لأفعل شيئاً؟». سلسلة العقوبات التي حصدها القزي بسبب «جريمته المشرّفة» لا مجال لذكرها كلها، ولكن ليس أقلها أنه أصبح بلا مكتب، فصار يستقبل ضيوفه وقوفاً في ردهات العدلية، وليس «أسخفها» حرمانه من ركن سيارته في موقف العدلية. هكذا، عليك أن «تبوس يد السلطة لكي تعيش مرتاحاً».
هو القاضي، المواطن، الذي «يؤمن بالله إلى أبعد الحدود، ويمقت الطائفية والتفرقة». ليس غوغائياً، فلا يقرن مقت الأديان بالعلمانية. «الله يراني»... عبارة لأحد القديسين يلهج بها لسانه دائماً، وحكمته المفضلة، تلك المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب: «سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري، وأصبر حتى يأذن الله في أمري، وأصبر حتى يعلم الصبر أني صبرت على شيء أمرّ من الصبرِ». يعشق الأدب العربي حد الإدمان، وجملة ابن عربي المحببة إليه: «كل شوق يسكن في اللقاء لا يعوّل عليه». بعد كل محاضرة له، يتحلّق حوله عدد من الحضور، ولا ينفكون يسألونه عن حياته وشخصه بلسان الملهوف، كأن فيه «ندرة» يخشون انقراضها. في إحدى محاضراته، كان لافتاً أنه افتتحها بعبارة للقديس مار بولس: «كأن لا شيء لدينا، ونحن نملك كل شيء» واختتمها ببيت من قصيدة للإمام علي: «النفس تبكي على الدنيا وقد علمت/ أن السلامة فيها ترك ما فيها». أجاب سائليه، بعد تلك المحاضرة، أن مشاهدة الأفلام في السينما إحدى أبرز هواياته، وخصوصاً الأفلام التي تتحدث عن أشخاص عصف بهم الدهر فأصبحوا مجرمين، ففي السينما «تكون بين الناس، تتفاعل مع همومهم، وأي قاض يعيش في برج عاجي لن يفهم الناس».
تركت والدته في نفسه الأثر الأكبر بتربيتها، وعندما توفيت بعد شهر من دخوله الجامعة لم يخبر أحداً من أصدقائه، ولما سألوه عن سبب غيابه قال إنه كان مريضاً، «لأنني لا أتحمّل نظرات الشفقة». تخرّج من الجامعة ومعه حلم أن يصبح قاضياً، أمنية أمه. لكن، في عام 1987، كانت رياح الحرب الأهلية أقوى من سفن الأمنيات. سافر إلى الكويت وعمل في صحيفة «القبس» في قسم الدوليات، وبعد أشهر قليلة قرأ إعلاناً عن امتحان لدورة قضاة في لبنان. غادر الخليج، رغم الراتب المرتفع، مقرراً المغامرة. أجرى الامتحان ونجح بامتياز. قال له رئيس مجلس القضاء الأعلى الراحل عاطف النقيب: «بعد المقابلة، دعوت الله لك أن تنجح، ولما رأيت نتيجتك حمدت الله». حقق أمنية والدته إذاً، وحتى وصل إلى ما وصل إليه كان مضطراً أن يكون منضبطاً في حياته، حتى في مرحلة المراهقة، فتحمل مسؤوليات مختلفة بعد رحيل أمه. هو لن يترك لأولاده أموالاً ولا قصوراً، بل «بطاقة تعريف فقط، ودرس اعتناق الحرية».
قارئ نهم، طالع جرجي زيدان وجبران خليل جبران، وله هوى بالمتنبي ونزار قباني، وكثير من الكتابات عن «الحب والبطولة». يقرأ الإنجيل، ومن حين لآخر يتمعّن في القرآن. يحب الموسيقى والطرب، وفيروز طبعاً، التي حفظ عنها «ليلية بترجع يا ليل» ويفتح عينيه مع كل صباح على «أسامينا.. عينينا هني أسامينا».
ولد جون القزي في 4 تموز 1966 في الأشرفية، لكن مسقط رأسه في الجية. درس الحقوق في الجامعة اليسوعية، ودخل إلى معهد الدروس القضائية عام 1992 ليتخرّج منه بعد 3 سنوات. عُين بعدها عضواً في محكمة البداية في جبل لبنان، وتنقل في المناصب وصولاً إلى عضو مجلس القضاء الأعلى لمدة سنة (أصغر عضو في المجلس في تاريخ العدلية)، ثم رئيساً للمحكمة الابتدائية المدنية في جديدة المتن (أحوال شخصية)، وهو اليوم مستشار في محكمة التمييز المدنية في بيروت
12 تعليق
التعليقات
-
إن الله مع الصابريندع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع ولاتجمع من المال فلا تدرى لمن تجمع ولاتدرى أفي أرضك أم في غيرها تضرع فان الرزق مقسوم وكد المرء لاينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع الامام علي (ع)
-
والله العظيم شعرت أن شيئاً ماوالله العظيم شعرت أن شيئاً ما في ملامح هذا القاضي تدفع إلى البكاء، وبعد قراءة قصته التي كنا نعرف بعضا منها ندرك لماذا هذا الأسى لا يسعى القول سوى فاليحفظ الله هذا الانسان والقلة القليلة من امثاله، فجون القزي اسم حفر في تاريخ القضاء اللبناني للابد، ويجب على كل الحريصين السعي للوقوف وراء امثاله حتى لا يأتي يوم ونترحم على هكذا خامات وضمائر انسانية حية وروح ثائرة
-
تحية واحترامالله يعطيه الصحة وأكثر وأكثر من العلم والثقافة والله يكثر من من أمثاله عنا يا رب
-
الشجرة المثمرة وحدها هي منالشجرة المثمرة وحدها هي من تقذف بالحجارة من أجل ثمرها، أما تلك الأشجار الخاوية الخالية فلا احد يهتم بها، لاأحد يقذفه ولاأحد يصنع لها مكانا في حساباته. أحد الذين امتطوا موجة النجاح جاء الى أحد الحكماء شاكيا، حاملا اليه عشرات المظالم التي يهاجم بها وطالباً منه المشورة في الرد. قال له الحكيم : ــ افترش هذه المظالم وانظر مساحة رقعتك عن الأرض. وأكمل الحكيم قوله : ــ ان كل إضافة من العقاب والشتم توجه اليك تعني أنك تعلو، أنك شئ مهم، كبير، يملأ الأسماع ويحرك الأحقاد. فقال بعد ان سمع كلام الحكيم : ــ من صدقهم لو صدقوا سنستفيد، ومن كذبهم وزيفهم وحقدهم ــ وماأكثره ــ سوف يكون لنا منطق الرد، رد الأقوياء العقلاء الواثقين من كل تصرفاتهم . هكذا هو جون القزي.. دمت فخراً لكل شريف لبنان أيها القاضي.
-
وجود هكذا أشخاص يعطوننا وجود هكذا أشخاص يعطوننا تجسيدا جميلا لعبارة "نحن محكومون بالأمل "وقيمة أكبر لها
-
الشرف و المجد لامثالك يا حضرةالشرف و المجد لامثالك يا حضرة القاضي الادمي
-
واختتمها ببيت من قصيدة للإمامواختتمها ببيت من قصيدة للإمام علي: «النفس تبكي على الدنيا وقد علمت/ أن السلامة فيها ترك ما فيها» تصحيح «النفس تبكي على الدنيا وقد علمت/ أن السعادة فيها ترك ما فيها»
-
أنا أحب هذا الرجل قدوة وعبرةأنا أحب هذا الرجل قدوة وعبرة
-
أحسنت الاختيار أستاذ محمدأحسنت الاختيار أستاذ محمد نزال، فالقاضي قزي من خير القضاة الذين عرفهم لبنان وحرام أن يعاقب بل هذه جريمه ولا ينبغي السكوت عنها من قبل جميع الشرفاء للاسف هذا هو لبنان، من يستحق التكريم يُعاقب ومن يستحق السجن يُكرّم ويثاب وترفع درجته، عندما تنتهي هذه العقلية يمكن بعدها أن نقول ان لبنان يمكن ان يصبح دولة على درب الحداثة، والا سنبقى في التخلف الى اب الابدين
-
لا تهتملطالما إتخذت من الحكمة حكما ...ومن البلاغة نهجا.لا ضير لك وبك من حكم المحكومين بالجهل."قال كم لبثت..قال يوم أو بعض يوم" لذلك إحتسب بصبرك صبر من سبقك "والعبرة لمن يعتبر" وإن فقدت العدالة في الأرض فإنها عادلة وأبدية في بقية الأمكنة والأزمنة .
-
الله مع الصابرينصديقي محمد ، ليست غريبة هذه القصة على قصور العدل،لقد استطعت ان تحظى بأحدهم وتتحدث اليه وتكتب عنه في مقالك ولكن نحن في كل يوم نلتقي بضحية ونواسيها احزانها ، أحزان الكرامة وراحة الضمير،قد ارشدك في يوم من الايام الى بعضهم ، فمنهم من تقدم باستقالته ومنهم من هاجر ومنهم يقوم يؤمن دوام فحسب ، ولا يسعني ان سوى الله مع الصابرين يا اخ محمد ويا ريس قزي
-
ممتازالايام الاتية لا بد وا ن تنصفه للقاضي العصامي وان كان للباطل جولة فللحق الف جواة