كلّ من عايش طرابلس، وتعرّف عليها أو اطلع على حياتها الاجتماعية والاقتصادية وعلى النشاط العمراني فيها منذ القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي (قبيل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975) يذكر أن منطقتي باب التبانة وجبل محسن كانتا قلب المدينة النابض بالحياة. فالأبنية في محيط شارع طرابلس، الذي أصبح «أشهر خط تماس» بعد الحرب الأهلية، تعود في أغلبها إلى العهد العثماني، حيث إن رسمي الهلال والنجمة لا يزالان موجودين على مداخل هذه الأبنية إلى اليوم، وإن كانت قد تشوّهت كثيراً بسبب المعارك الأخيرة.
يشرح عضو لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، والأستاذ الجامعي خالد تدمري، أن «شارع سوريا، كان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مركزاً تجارياً مهماً جداً، إذ كان يمثّل نقطة تجمّع السلع والبضائع القادمة من مرفأ بيروت عبر «الترامواي»، الذي كان يربط بيروت بطرابلس، ومن ثم تنقل هذه البضائع إلى مدينتي حمص وحماه عبر طريق معبّدة بالحجارة هي الأولى من نوعها في المنطقة». على هذا الأساس عُرفت هذه المنطقة بأنها «سوق الذهب»، وازدهرت إلى حدّ بُني فيها 40 خاناً، يسكنها التجار الذين يأتون المدينة لإنهاء أعمالهم. أما كبريات عائلات طرابلس وبرجوازيّوها، فبنوا قصوراً لهم في هذه المنطقة، لا يزال بعضها موجوداً حتى اليوم. شجّع ازدهار المنطقة مئات العائلات المسيحية البرجوازية على «النزول من زغرتا وبشري لتقيم فيها، ولا تزال بيوتها الحجرية موجودة حتى اليوم. وقد كان الوجود المسيحي في المنطقة قوياً لدرجة أن الإرسالية البروتستانتية (مدرسة الأميركان) أسّست أول مدرسة لها في طرابلس بين باب التبانة والقبة، وهي الآن مدرجة على لائحة الأبنية التاريخية.
تغيّر السكن في منطقة التبانة مع بداية الستينيات أولاً بسبب فيضان نهر أبو علي، الذي هدم قسماً كبيراً من المدينة كان مبنياً على ضفاف النهر، وثانياً بسبب اندلاع الحرب الأهلية، وتحول أسواق طرابلس الغنية إلى منطقة الزاهرية. فترك سكان هذه المنطقة بيوتهم التي ما لبث أن سكنها المهجرون، لكن فقر السكان لم يغيّر في المعالم الهندسية، ولا تزال مداخل البيوت وشرفاتها مزيّنة بقوالب من الباطون صنعت خصيصاً لها، وتنافس مداخل أجمل بيوت بيروت.
إلى ذلك، يعود بناء شارع المهاجرين، الواقع خلف شارع سوريا لجهة جبل محسن، بالكامل إلى العهد العثماني. ويشير تدمري إلى أن «السلطان عبد الحميد الثاني أمر ببنائه، وهو يضم 20 مبنى، لإيواء عائلات هاجرت من جزيرة كريت بسبب الحرب العثمانية ـــــ اليونانية، وهي عائلات تعرف في طرابلس من اسمها الذي ينتهي بحرفي «كي»، لكن لم يبق في الشارع اليوم سوى عائلة واحدة تعود أصولها إلى كريت، بينما توزّعت العائلات الأخرى على بقية أنحاء المدينة بسبب الحرب في المنطقة». ويقول تدمري إن «أكبر خانات طرابلس العثمانية مبنية في منطقة باب التبانة، مثل خانات العدس وشعبان والبطيخ، الذي تحوّل إلى مركز يقيم فيه حالياً عناصر الجيش اللبناني، الذين يفصلون بين أبناء المنطقتين المتنازعتين». ويكشف تدمري عن سعي لدى الحكومة التركية «من أجل المساعدة على إعادة ترميم هذه الخانات، لكن لم نصل إلى أيّ نتيجة، بسبب الوضع الأمني الذي لا يُشجع أيّاً كان على القيام بمشروع كهذا». ويشير تدمري في هذا السياق، إلى أن «مقبرة الشيخ علي العمري، الذي توفي نهاية القرن التاسع عشر، واشتهر بكراماته، ومقامه، وحدهما رمّمتهما مؤسسة الوليد بن طلال، كما بنيت قبة فوق المقام»، لافتاً إلى أن «رئيسة المؤسسة، ليلى الصلح حمادة، كانت تنوي أيضاً إعادة تأهيل مسجد القاضي عمر الملاصق لسوق القمح، بعد زيارتها له قبل نحو 3 سنوات، لكن المعارك المتكررة في المنطقة حالت دون ذلك». ويكشف أن «هذا المسجد الأثري، ذا الطابع العثماني، يأخذ أهمية كبرى لأنه يتسع لنحو 150 مصلياً يؤمونه يومياً، وخصوصاً أنه لا يوجد في سوق القمح ومحيطه أي مسجد آخر قريب. لذا، فلو عُمل على ترميمه وإعادة بناء سبيل المياه أمامه، لشعر المواطنون في هذه المنطقة بأن لديهم من المباني التاريخية ما يكفي للشعور بالفخر، كما أن ترميم الأدراج التي تربط تلك الأحياء بعضها ببعض، وتنظيف واجهاتها، قد يحولانها الى منطقة سياحية، تشرح تطور الحياة في طرابلس في القرن الماضي. فتتحول منطقة الصراع والقتال والبؤس إلى مناطق تاريخية محترمة».
8 تعليق
التعليقات
-
هل من الممكن أن يقدم لناهل من الممكن أن يقدم لنا الكاتب أو الجريدة في المقالة المقبلة عن طرابلس الشام ، معلومات عن تاريخ سكن العلويين لطرابلس و الأصل لوجودهم في هذه المدينة . بالنسبة لي و أثناء قرائتي لكتاب (الحروب الصليبية كما رآها العرب ) لأمين معلوف ، ذكر الكاتب أمراءاً من بني عمار _أعتقد هكذا يسمّون_ وهم من الشيعة كانوا حكاما لطرابلس في القرن الحادي عشر ميلادي في نفس الفترة التي غزا فيها الفرنجة بلاد المشرق . وكان لبني عمار دور مؤثر في التصدي لمحاولة الإفرنج احتلال المدينة . هل لهؤلاء علاقة بوجود العلويين في هذه المدينة ؟ .
-
انا من مواليد الخمسين وقدانا من مواليد الخمسين وقد ولدت ونشأت في باب التبانة.وتركنا مثل كل الناس الى الزاهرية.بالنسبة للعلويين طبعا من نسيج المدينة.وقد تربينا سوية وتصادقنا وترافقنا ولا زلنا.ولم يكن في طفولتي شيء اسمه جبل محسن.كنا كلنا نعيش في التبانة والسيدة والكواع وساحة الاميركان.اما جبل محسن فكان بالنسبة لنا كلنا هو مكان النزهة.حتى المدرسة كانت تاخذنا الى الجبل للسيران أيام الربيع بدل حصة الرياضة.بإختصار كنا أهل سنة وعلويين..ولم يتغير الوضع الا بعد وصول حافظ الاسد الى الحكم وسياسته كما نعرف جميعا فرق تسد...
-
العلويون من نسيج المدينة الأساسيذكر الدكتور عمر عبد السلام التدمري في كتابه أن العلوييين موجودون في المدينة منذ القرن الرابع الهجري ويؤكد ذلك المطران الدبس في مؤلفه تاريخ سوريا ولبنان وفيليب حتي في تاريخ لبنا وسوريا وفلسطين وكثير من المراجع التاريخية المهمة تؤكد ذلك. لكن الكاتب يتعمد تجاهل الحديث عنهم لغاية في نفس يعقوب.
-
مقال ممتاز بالفعلأنا لست من طرابلس، ولكن المقال أضاء على نواحٍ كانت غائبة عني تماماً. شكراً للكاتب والجريدة. ويا حبذا الإكثار من هذه المقالات التي تتحدث عن التراث والآثار. سؤال آخر تبادر لي وأنا أقرأ المقال، هو عدم الإشارة عن كيفية تواجد الأخوة من الطائفة العلوية الكريمة في منطقة جبل محسن، هل يعود تواجدهم لقرون مضت؟ لنهاية الفترة العثمانية؟ لما قبل الحرب الأهلية؟ هل هم من المهجرين الذين تحدث عنهم الكاتب؟ ومن أين نزحوا؟ ولماذا اختاروا هذه المنطقة؟ في الغرب، يقومون باختراع تاريخ لهم عند كل زاوية وكل مفرق. هنا مرّ أحد المشاهير من فترة الحرب العالمية الثانية، وهناك خطب أحد زعماء الهنود الحمر قبل 50 سنة، وهنالك توفي محافظ البلدة قبل 30 سنة ... الخ. بينما بلادنا تزخر بالتاريخ الذي يبدأ أحدثه (أقله قدماً) من القرن الـ18 ولا ينتهي قبل الألفيات الموغلة في القدم. ولكن شعوبنا وحكوماتنا وبلدياتنا لا تولي التاريخ والآثار والتراث ما تستحقه، والناس تتفنن في تدميره دون وعي، كما هي الحال اليوم في طرابلس مع الأسف.