يوم الثلاثاء الفائت عقد وزير الثقافة، غابي ليون مؤتمراً صحافياً لشرح وجهة نظره بشأن تفكيك ميدان سباق الخيل الروماني في منطقة وادي أبو جميل. حينذاك، اتهم ليون «أسلافه» في الوزارة بالمزايدة في هذا الملف، لأن همهم إبقاء «الساحة أمام بيت الوسط (منزل الرئيس سعد الحريري) كما هي الآن: خالية من أي مبانٍ».
يوم أمس، عقد وزراء الثقافة السابقون، تمام سلام وطارق متري وسليم وردة، مؤتمراً صحافياً للردّ على خلفهم. الوزراء السابقون أكدوا أن «الوزير ليون يخترع المبررات ويكيل الاتهامات لكي لا يقول ما هي الدوافع الحقيقية لكسر قرارات ثلاثة وزراء سابقين». أشاد الوزراء الثلاثة بأهمية المعلم التاريخية والاثرية وذكروا بمطالبة المديرية العامة للآثار بالمحافظة عليه سنة 2008، وكيف انهم تجاوبوا كل بدوره مع مطالبها، فأدخل المعلم بالجرد العام لحمايته. وهذا ما يدفعهم اليوم الى التساؤل عن سبب تغيير رأي المديرية حالياً، ومطالبتها بدمج الموقع في المبنى.
الوزير متري سأل أكثر من مرة: لماذا «لم يستشرنا الوزير ليون يوماً في هذا الملف، لماذا لم يتصل بأحد منا؟ لماذا لم يسألنا عن سبب إدخال الموقع في الجرد العام؟». وبدلاً من ذلك، يضيف متري، ألغيت قرارات ثلاثة وزراء «بلا مبررات وجيهة. ولن نبادل الاتهام بالاتهام او الايحاء بالايحاء». وقال إن هذا الملف كان يجب طرحه على النقاش بكل هدوء وعقلانية وفتح الباب واسعاً امام النقاش، والتداول مع المجتمع المدني بما يجري». اما الوزير سلام، وبعد تصفيق حار من جمهوره الحاضر في منزله حيث عقد المؤتمر أمس، فدخل في نقاش علمي من نوع آخر، إذ شرح طرق المحافظة على الآثار في موقعها او دمجها ضمن المباني حين لا تكون مهمة جداً. وشدد على أن المعالم حينما تكون بأهمية ميدان سباق الخيل تبقى في مكانها، لا بل يعمل على إبراز كافة معالمها. وقال: «لو كان للدولة القرار، لكان يجب استملاك كل العقارات من حول الميدان وكشف المعلم بأجمعه». وللتذكير فقط، فالعقار الملاصق لميدان سباق الخيل، والذي يحوي في باطنه على الجزء الآخر منه هو الكنيس اليهودي في وادي ابو جميل. اما باقي العقارات فقد انتهت الحفريات فيها ورفعت الآثار منها، وبوشر بالبناء مكانها. وبرر سلام قراره برفع الحمّامات الرومانية من العقار الملاصق لميدان سباق الخيل (مع العلم بأنها كانت تتبع للميدان) «لانها لم تكن تشكل وحدة متكاملة» قائلاً بأنه إرتكز في قراره على تقرير المديرية العامة للآثار. وتجاهل سلام في تبريره كون تقرير المديرية كان قد طالب بالمحافظة على الحمّامات في موقعها. كما أكد سلام بأن الادخال في الجرد العام «هو عملية محافظة اكيدة للمواقع الاثرية». وتجدر الاشارة الى ان الادخال في الجرد العام ليس إلا قراراً يمنع اصحاب العقارات من المس بها دون موافقة مسبقة من المديرية العامة للآثار، اما الحماية المطلقة فلا تتم إلا بالاستملاك بعد التصنيف كمعلم أثري.
بدوره، اقترح وردة على الوزارة طريقة للمحافظة على الميدان، فقال «إنه يمكن أن تطلب الوزارة من شركة سوليدير أن تعوض على المالك بعقار آخر في وسط بيروت، بالمساحة نفسها، وتعطيها الدولة اللبنانية في المقابل حق عامل الاستثمار في مكان آخر». سئل: «لماذا لم تقدَّم هذا الطرح عندما كنتَ وزيراً؟» أجاب بأنه فعل، وتقدم بكتاب إلى شركة سوليدير، لكنه لا يملك حالياً نسخاً عن المراسلات. أما صاحب العقار، ناظم علي أحمد، فقالت مصادر مقربة منه لـ«الأخبار»، إنه توجه الى الوزير وردة خلال فترة ولايته وطلب مساعدته في إيجاد حل لعقاره. وتضيف المصادر ان وردة قال لأحمد: «سأساعدكم لتأخذوا من الشركة السعر العادل، وأنا لا أرتشي. فذهبنا الى السيد منيب حمود، المدير التنفيذي لشركة سوليدير، وطلبنا منه أن يجد حلاً لنا، فعرض علينا أن يشتري منا العقار بالسعر الذي باعته سوليدير في عام 2000 أي بـ 1100 دولار للمتر الواحد. رفضنا بالطبع، لأننا كنا قد دفعنا ثمن المتر ما يقارب 3700 دولار، وهو الآن يوازي أكثر من ذلك بكثير، فقررنا أن ننتظر. لماذا هذا الإجحاف؟ لقد تم اكتشاف أجزاء أخرى من ميدان سباق الخيل الروماني في العقارات المجاورة لعقارنا، ورفعت الآثار المكتشفة في العقار 1371، في أسفل بنك عوده؟ لماذا بقي هذا الجزء من ميدان سباق الخيل الذي يشكل 7% من المدرج الروماني هو المسألة الوحيدة العالقة؟»
وكان أحمد، وكما فعل سابقاً، طلب من الوزارة أن تعيد البحث بملف عقاره، ففعلت وحوّلت الملف على اللجنة العلمية التي عينتها وزارة الثقافة لدراسة ملفاتها وأتت بخلاصة أنه يمكن دمج المعلم بالبناء المنوي إنشاؤه.
الوزراء السابقون لا ينظرون إلى الملف بهذا المنظار، بل يتكلمون عن الدمج كأنه مسألة لم تطرح حتى الآن في بيروت، في حين أن كل من هؤلاء الوزراء كان قد قرّر دمج مواقع أثرية أخرى، لكنهم يعتبرونها أقل أهمية من ميدان سباق الخيل. لذا يطالبون بأن تدخل منظمة اليونسكو ومنظمة الـ ICOMOS طرفاً في هذا الخلاف. وقال وردة انهم مستعدون للاحتكام لقرارت هذه اللجان العلمية، وانهم راسلوا هذه المنظمات طالبين منها التدخل لإيجاد حلّ لهذه المسألة. وهذا أمر ترفضه وزارة الثقافة الحالية وتعتبره تدخلاً في شؤونها وتدويلاً لقضية لبنانية بحتة. لكن ربما نسي وزراء الثقافة، في زحمة انشغالاتهم، الاطلاع على تاريخ الحفريات في بيروت ليعرفوا أن لبنان كان قد طلب فعلاً من منظمة اليونسكو سنة 1998 إرسال علماء لتقويم الوضع الميداني للحفريات. وأتى العلماء، وأعطوا رأيهم بأهمية المحافظة على المواقع في مكانها، فما كان من القيّمين على الأمر آنذاك (ومن أتوا بعدهم) إلا أن سرّعوا في وتيرة الجرف.
وبعيداً عن مواقف الوزراء السابقين الثلاثة، كان أعضاء اللجنة العلمية في وزارة الثقافة قد أبدوا رأيهم بالقضية، فقال المهندس سمير الشامي، أحد أفراد اللجنة العلمية، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده ليون، إنه «يجري التلاعب بالرأي العام اللبناني حينما يقال ميدان سباق الخيل الروماني في بيروت، في حين أن العقار لا يحتوي إلا على جزء من هذا الموقع الروماني». أما الدكتور حسان سركيس فأعاد التذكير بأن «ما بقي في بيروت اليوم يمثل فتات الطاولة مما كانت تحويه هذه العاصمة من آثار دمرت سابقاً، لكن هذه اللجنة تعاملت مع الموقع بناء على أهميته. فأوجدت له الحل المناسب بدمجه ضمن العقار وبجعل الطبقة الأرضية متاحة أمام الزائرين، فيصبح بهذه الطريقة متحفاً في الهواء ولكن ضمن المبنى». وأبرز الدكتور ألبير نقاش في مداخلته وبحسب الخرائط كيف أن ميدان سباق الخيل تعرض خلال العقد الماضي لعدة عمليات هدم ورفع للآثار، ولا يزال العقار المجاور يحفظ جزءاً من الشوكة الوسطية للميدان. وعملية الدمج ستتم للآثار وهي متروكة في وضعيتها، فلن ترفع المدرجات لأنها مكونة من حجارة صغيرة مرصوصة تتفتت إذا ما رفعت، لذا ستترك في مكانها وترفع الشوكة الوسطية المبنية من حجارة كبيرة ثم تعاد الى مكانها الأصلي متى انتهت عملية البناء».