اجتمع قضاة وقانونيّون وباحثون لمناقشة دراسة أعدّها المحامي نزار صاغية، عن الإصلاح القضائي بعد الطائف. بدا صوت معظمهم خافتاً، بسبب تأخّر وصول الميكروفون إلى طالبي الكلام. كانت حالهم شبيهة بحال القضاء اللبناني اليوم، فصوت القضاة لا يزال غير مسموع
أحمد محسن
توالت صرخات القضاة الصامتة. فبعد استقالة القاضي رالف رياشي من مجلس القضاء الأعلى، أعلنت القاضية غادة عون (عضو الهيئة الإتهامية في بيروت)، أمس، رفضها الواضح للصمت المطبق، لتعلن بنبرةٍ صارمة هذه المرة: «ليس من معركة خاسرة إلا المعارك التي لا نخوضها». فضّلت القاضية ألّا يكون تعبيرها عن استياء القضاة هادئاً كتعبير رياشي. لم يفتها أن تشذّب تفاصيل الأزمة، كي يصبح الرأي العام على معرفةٍ بحقيقة العوائق، التي ترمى بثقلها نحو القضاء، الذي بات جسداً بأمسّ الحاجة إلى العلاج، أو الإصلاح كمصطلح لغوي أدق.
وبالفعل، لبّت القاضية دعوة للمشاركة في اللقاء الحواري، الذي عقد في فندق البريستول لمناقشة دراسة أعدّها المحامي نزار صاغية، عن الإصلاح القضائي بعد اتفاق الطائف (صادرة ضمن سلسلة أوراق بحثية عن المركز اللبناني للدراسات)، فيما «مُنع قضاة آخرون من الحضور، رغم أنهم أعطوا ملاحظات وآراء على الدراسة»، كما أعلن صاغية. أما عن تفاصيل منعهم، فقد رفض القاضيان برنار شويري وأحمد الأيوبي التحدث عن ذلك. بيد أن قضاة كان لهم حصتهم من الرفض بدورهم. فخلال المناقشات التي تلت تعريف صاغية للدراسة، وتعقيب الأستاذ طلال الحسيني والقاضية عون، رأى القاضي ربيع حشماتي أنه يستطيع قول ما لا يريدون قوله: «التفتيش القضائي هو الذي منع قضاةً من الحضور». أعاد حشماتي أذهان الحاضرين إلى موعد استقالة رياشي، الذي رفض أن يبقى أكثر من مئة قاض شاب خارج قصور العدل، رفض إطلاق رصاصة الرحمة على القضاء. وفي دليل آخر على هذا الرفض، فاجأ القاضي برنار شويري الحاضرين بانضمامه إليهم في اللحظات الأخيرة، معتذراً عن تأخره لأسباب مرضية. أضفى قدومه نوعاً من الأمل، فقد ظن بعض الحاضرين بعد ساعتين من الانتظار، أن قدومه أشبه بصدور التشكيلات القضائية.
تركّز الحوار على نقطتين أساسيتين، الأولى هي تفصيل الدراسة وتقديمها من المحامي صاغيّة، والثانية من المحامي طلال الحسيني، الذي شارك في إعداد نصوص اتفاق الطائف، قبل أن تقوم القاضية عون بمداخلتها المدوّية. استعرض المراحل الأولى من الطائف، ولتي «ذاع فيها مصطلح هيبة القضاء»، والتي بدأت في مرحلة تولّي الرئيس الحريري تأليف الحكومات. ورأى صاغية في دراسته أنه لولا محاولات وزير العدل الأسبق بهيج طبارة، لكان مصطلح «الإصلاح القضائي» كله فارغاً. فطبارة «أضاء على مسألة رواتب القضاة المتدنّية في تلك الفترة، وعددهم القليل»، أثناء محاولة لبنان بأسره الخروج من عباءة الحرب القاتمة.
بيد أنه، خلال استعراضه للحقبات اللاحقة، خلص إلى أن النتائج الخجولة لمحاولات طبارة تلخصت بانتخاب عضوين فقط في مجلس القضاء الأعلى من قبل قضاة محكمة التمييز. في المراحل اللاحقة، رأى صاغية أن الشعارات التي أطلقت، وأهمها محاسبة القضاة أنفسهم (1999)، سقطت سلفاً قبل عام، حين أقرّ مشروع المسّ بهيبة القضاء، فجرى التعامل معه على أنه واجهة إعلامية، لمنع أي محاولة لفرض إصلاح فعلي. فصّل صاغية القانون، الذي جعل التعامل بالقضاة شبيهاً بالتعامل مع المؤسسة العسكرية، وهما مختلفين برأيه. كما أشار صاغية إلى «ضعف وزن الإصلاح القضائي الاجتماعي» منذ إقرار الطائف حتى اليوم، فذكر: ست سنوات لإقرار الرواتب، 12 سنة لانتخاب عضوين في مجلس القضاء الأعلى فقط، 7 سنوات للحصول على مجلس دستوري (اعتبره من أهم الإنجازات بعد الطائف)، و4 سنوات شغور حتى هذه اللحظة، من دون أمل بتسلل أيّ ضوء إلى أفق القضاء.
في المحصّلة، استنتج الباحث أن «مجلس القضاء الأعلى تحوّل إلى جزء من السلطة السياسية، أو متلقّ لأوامرها، في حقبتي الحريري ولحود على السواء. فحين تتفق القوى السياسية كان القضاء يخضع للمحاصصة، وحين يقع الاختلاف يجري تطهير القضاة على أسس سياسية، كما حصل في المرحلة الحالية تماماً: «القضاء عرضة للتهميش والفراغ في كل المراحل. أما الحسيني، فقد ركز في مداخلته على ضرورة التمييز بين النصوص القانونية في اتفاق الطائف، وتطبيق هذه القوانين، موافقاً على أن القضاء مهمل إعلامياً، بينما تحظى السياسة بدعم إعلامي مخيف.
لم تتهرب معظم الكلمات من واقعية تدخل الحكومات في شؤون القضاء، رغم إلمام الجميع بمبدأ الفصل بين السلطات، لكن الكلمات أغلبها نبّهت إلى أن: القضاة لا يسكتون. الصمت مفردة محذوفة من قاموسهم، وخصوصاً القاضية عون، التي ذكّرت بحملة القضاة الإيطاليين الشهيرة، حملة «الأيادي النظيفة». علّ أيادي القضاة في لبنان تنجو من الاتّساخ العام في أروقة المجتمع كلها.


مشارك لا قاضٍ

حين وصل القاضي برنار شويري، شهدت القاعة تصفيقاً حاراً من جميع المشاركين، رغم وصوله المتأخر، في وقت كان فيه اللقاء على مشارف الانتهاء. لكن القاضي أعلن أن رئيس التفتيش القضائي تمنّى عليه ألا يقدم مداخلة، ولم يمنعه عن ذلك. أعلن شويري رأيه كمشارك في الحوار.. لا كقاض.