كايب تاون مدينة كوزموبوليتية تشي بالتناقضات التي يعيشها أهل جنوب أفريقيا. هدوؤها يخفي بركان الغضب الذي يغلي في شوارعها. الاستعمار رحل، لكنّ التحكّم الأجنبي باقتصاد البلاد ما زال قائماً

رنا حايك
لا يهزّ صوت المدفع أصحاب البسطات الملونة المنتشرة في ساحة «غرين ماركت». إنه إنذار بانتصاف النهار في كايب تاون، تعلنه القوات البحرية الجنوب أفريقية يومياً وفق تقليد قديم تتبعه. يسيطر على شارع «سانت جورج» هدوء تكسره غمغمات أصحاب البسطات الذين يجادلهم الزبائن في أسعار مصنوعاتهم الحرفية العاجية أو الخشبية أو الصارخة الألوان، وذلك تماشياً مع مدينة يغمرها ضوء شمس حارقة طوال اليوم. حرارة الشمس تصبح أقوى مع حلول فصل الصيف الذي يعلن قدومه في جنوب «سانتا كلوز»!
تظلل الأشجار الخضراء شوارع المدينة الطويلة والواسعة. كايب تاون مدينة هادئة تربض على بركان مشتعل. أفارقة الجنوب، الذين اكتسبت جيناتهم بعض البياض من المستعمر الهولندي ثم البريطاني، أصبحوا يمارسون ما يسمّيه سائق التاكسي الأفريقي من أصول هندية، مشعل، «النظام التأكيدي» أي«تفرقة عنصرية معكوسة». أفارقة الجنوب يتأففون من أفارقة الشمال الذين يلجأون إليهم هرباً من حروب طاحنة في بلادهم. بيبي، التي تجدل شعور السائحات، لم تكن لتعيش هنا «لولا الحرب التي أبعدتها عن بلادها الكونغو»، محمد، السوداني، صاحب بسطة الحلي الملونة، هو أيضاً هرب من الحرب ويقول: «بعض الناس هنا عنيفون وخطرون. وإذا حدّثوك وأجبتهم بغير لغتهم، يكتشفون أنك أجنبي، حينها لن يقتصر الاعتداء على السرقة، بل قد يتخطى ذلك إلى القتل».
40% من أبناء جنوب أفريقيا يعانون البطالة. المناطق السكنية المسيّجة والمصممة على شكل القرى الأوروبية يقطنها الأجانب والأغنياء، وإلى جانبها تمتد مخيمات من التنك يغيب عنها الفرح، لا تراه إلا في رسوم بالألوان والخطوط الزاهية على ألواح الزينكو.
وراء دفء الاستقبال تلمع في عيون أفارقة الجنوب ريبة خلّفتها سنوات طويلة من الاستبداد والقهر وحذر المتنبّه، ما يجعلهم مستعدين دائماً للانقضاض على أي بادرة أو محاولة الدهس على مساحتهم الخاصة. هذا التحرر من سلطة الأغراب ليس سوى ما يطفو على السطح. أما في العمق، فإن التحكّم الغربي بالاقتصاد وبثروات بلاد الذهب متقن. يسيطر اليهود الأميركيون البيض على سوق الألماس وأكبر المحال والماركات التجارية. ويتملّك الإنكليز بيوتاً لا يحلم الأفارقة بامتلاكها. فهم لا يزالون في الفترة الانتقالية، أبناء جيل بأكمله مستبعدون عن سوق العمل لأنه لم يتسنّ لهم أن يحظوا بتعليم عال، في ظل قوانين التفرقة العنصرية، فحُكموا بالبطالة والفقر.
نادين (21 عاماً) تعرّف عن نفسها منذ بداية الحديث بأنها تدرس العلاقات الدولية في جامعة «ستيلينبوش» التي «كان ممنوعاً على والديّ دخولها لأنها كانت للبيض فقط».
الآن انتهى ذلك، لكن ليس تماماً. فمن تربّى على تفوّق لون بشرته، من الصعب أن يتلاءم مع المساواة الجديدة. «في منطقة أورانيا، لا يزال أبناء المجتمع الإنكليزي يعيشون في الماضي. رفضوا استبدال العلم الجديد للبلاد، وخدمهم لا يزالون ينادونهم بـ«ماستر». يطالبون باستقلال منطقتهم عن الدولة، لكنهم لن يتوصلوا إلى ذلك».
كايب تاون مدينة كوزموبولينتانية. فحين «جاء البريطانيون، جلبوا معهم «عبيدهم» من ماليزيا وجافا والهند وإندونيسيا. هؤلاء أصبحوا مواطنين جنوب أفريقيين اليوم، لكنّ السكان الأصليين لا يحبونهم». هكذا يشرح مشعل السبب الذي دفعه إلى العمل كسائق، «فأنت لا تحظى بوظيفة مهمة إلا إذا كنت أسود البشرة هنا». ليس الدين هو السبب، بل اللون. فمشعل مسلم، ويؤكد على التعايش المسلم المسيحي في جنوب أفريقيا.
يفخر مشعل ببلده، ويتحدث بحماسة عن «رأس الأسد، لأنها تبدو كأسد رابض، وتايبل ماونتن (أي الجبل الطاولة) لأنه مسطح، وجبل الشيطان». ولهذا الأخير قصة طريفة، «تقول الأسطورة إن أحد المستعمرين الهولنديين شيّد منزله على رأس هذا الجبل الذي يبلغ ارتفاعه 1100 متر. وكان عصر كل يوم يجلس على مصطبته يدخّن الغليون إلى أن ظهر له الشيطان ذات يوم وتبارى معه على من ينفث دخاناً أكثر».
يحوم الضباب حول قمة ذلك الجبل. وحتى اليوم، كلما اشتد، يردد الأهالي الأسطورة: لا بد أن الشيطان والهولندي يتنافسان مجدداً.
لمشعل رأيه الخاص في كل الأساطير. يهزّ رأسه مستهزئاً وساخراً من «الأكذوبة» التي تنشرها كتب الجغرافيا في العالم. «كلا، المحيطان الهندي والأطلسي لا يلتقيان عند رأس الرجاء الصالح».
يشرح نظريته بأسلوب معقد، لكن ذلك لا يمنعه من الإصرار على السياح الذين يرافقهم أن يتخذوا صورة جماعية وراء تلك الخشبة التي تحدد النقطة الأبعد في أفريقيا عند رأس الرجاء الصالح، فهذا «يجلب الحظ السعيد».
في تلك الجولة، تمتد «جنات عَ مدّ النظر» على أراض شاسعة صنّفتها الحكومة محميات طبيعية. تتجول السيارات، وتؤخرها عن إكمال مشوارها عائلة من النعام أو القردة «البابونز» التي قرّرت القيام بنزهة عائلية. طبيعة بكر تعزّز شهرة كايب تاون كوجهة سياحية بامتياز، وتغذي استشراق الأوروبيين الذين يعيشون فترات طويلة من السنة تحت «الشمس الأفريقية الإستوائية»، هرباً من صقيع بلادهم، يساعدهم على ذلك فارق العملة الذي يجعل الحياة في جنوب أفريقيا في غاية السهولة، من الناحية المادية.
لكنه هدوء خادع يحمل مفارقة تاريخية: فالسياح يتلقّون تحذيرات مشددة تلفتهم إلى خطورة الخروج ليلاً في كايب تاون، مدينة نلسون مانديلا الذي حرّر بلاده من دون اللجوء إلى العنف. هذا العنف يتغلغل اليوم في شوارع المدينة التي تحتل المرتبة الثانية عالمياً من حيث ارتفاع معدلات الاعتداءات والجريمة. لكن أهلها يرقصون في النهار، ويغنون بصوت شجي خارق على ناصيات الطرقات، يخبطون أقدامهم على أرض دفعوا ثمن استردادها غالياً، ولم تعد إليهم ثرواتها تماماً بعد. سكان أكواخ التنك الذين يغنون لقاء بعض «راندات» المارة، أصواتهم تنخر الحواس بحزنها الدفين والمتوارث..


لغة تحوي لغات

يتحدث سكان أفريقيا الجنوبية إحدى عشرة لغة، هي لغات القبائل، كما يتحدثون الإنجليزية بطلاقة. تتداخل اللغات فيما بينها، وتتوحد في لغة الـ«أفريكان» التي يتخللها التعابير والمصطلحات الجرمانية والهولندية. لكل منهم اسم قبائلي وآخر إنكليزي. لا يزالون يقصدون طبيب الفودو للعلاج بالسحر من الأرواح الشريرة المتمثّلة بالأمراض. شوارعهم تستنسخ أسماءها عن شوارع لندن وهولندا: من ساسكس إلى وودستوك وبيشوب..