أنسي الحاج■ خالدة الميزان والمقياس
نشرت «السفير» دراسة عن «لن» و«الرأس المقطوع» أعدّتها خالدة سعيد لمؤتمر انعقد أخيراً في باريس. بعد خمسين عاماً تعود أكبر ناقدة أدبيّة عربية في عصرنا إلى كتابيَّ الأوّلَين عودة الشمس إلى شروقها. «قراءة وسيطة» كما سمّاها الشاعر الكبير (والناقد الكبير والمفكر الكبير) عبّاس بيضون، وهي وسيطة حقّاً، لا الدراسة فحسب بل صاحبتها، خالدة الأقرب إلى شعر الشاعر من الإلهام إلى المُلْهَم، والتي يُحسّ الشعر بعد أن تَكْتب عنه أنّه لم يكن موجوداً قبل أن تكتب عنه.
لا أستطيع أن أتحدّث عن خالدة سعيد إلاّ حديث الشغف والتطرّف، فهي دوماً الميزان والمقياس، أبسط ما فيها عمقها وأعمق ما فيها بساطتها، وكيفما رَمَتْ قلمها تشعّ بنور الكشف ومفاجآت النظرة الخلاّقة، النظرة التي تُرْسِل عبقريّتها، بلا صَخَبٍ ولا نَفْخ، إلى روح الكلمات، إلى روح الكاتب، إلى سرّه والتباسه، إلى أبو الهول فيه وإلى ألاعيبه ومهاراته ومفاتيحه فلا يبقى مغلقاً عليها إلاّ ما تريده هي أن يظلَّ مُغْلَقاً.
إذا قرأتْ خالدة سعيد هذه الكلمة ستقول كالعادة: «إي لأ مش هالقدّ»، في تواضعها العضوي الذي يجعلها، وهي المشرفة كالنسر على شعرنا، بل أدبنا الحديث منذ خطواته الأولى وبمروحةٍ واسعةٍ مُشْبِعَة وبإعادة خَلْق الخَلْق في أحيانٍ كثيرة، كالملاك المتفاني في رعاية أطفالٍ كلّما أرادوا شكْره أو التعبير له عن إعجابهم يقابلهم بكلامٍ مبتسمٍ يريد كسرَ جديّة المديح تفادياً لأَشراكٍ لا وجود لها إلاّ في توجُّس الملاك وحرصه على البقاء في منأى، وفي عطاء، وفي نزاهة وصدْق ومحبّة وعمق وصفاء لا تنصهر معاً إلاّ لديه.
وكلّما ازددتِ يا خالدة تواضعاً ازددنا انبهاراً بكِ وظمأً إلى قراءتك، وقياساً للفراغ الذي كان سيكون في الأدب العربي الحديث لولا التقاء قَدَره بقدرك.

■ إعاشة
في ماضي الحروب، وبالأخصّ الحرب الكبرى 1914 ـــــ 1918، استعان اللبنانيون بمساعدات أبنائهم المهاجرين إلى الأميركتين. في الخمسينات والستّينات من القرن العشرين عاموا على ازدهارٍ جَلَبَه سيّاح العرب النفطيون والليبراليّة الاقتصادية والسريّة المصرفيّة. خلال حرب 1975 وما بعدها استعانوا على البقاء بوسيلتين: حريّة الاستيراد والتعامل التي أتاحها للميليشيات الانفراد بهذه المنطقة أو تلك، ثم المال النفطي الذي تدفّق على جميع الأفرقاء إمّا لإبعاد شرّهم وإمّا تنفيذاً لتعليمات الدول العظمى وإسرائيل والتي كانت تقضي بتفجير لبنان والفلسطينيين بعضهما في قلب بعض. اليوم يُراد لنا أن نعتاش على المال النفطي مرّة أخرى وبمروحة أوسع. أيُّ مجتمعٍ يستطيع أن يحيا ويتقدّم ويحلم وينهض ويتحرّر ويواصل استكمال حريّته كلّ يوم في ظلّ الارتهان وخطر انقطاع الإعاشة كلّ لحظة، خصوصاً بعد الأزمة العالميّة الضاربة؟
لا أحد ينكر فضل التحويلات الماليّة للبنانيي الخليج إلى ذويهم في الوطن على الازدهار العمراني والرخاء وسائر مناحي العيش. تلك كانت جهود اليد العاملة والعقل اللبناني العاملين في الخليج وغيره، ولم ترهن البلاد سياسيّاً أو دينيّاً أو مذهبيّاً ولا قسمته بين معسكرين فصلاً مدمّراً كما هو حاصل اليوم. تلك كانت أموالاً فرديّة حرّة، واليوم هي أموال دول تُدْفَع إلى معسكرات ثمن انقسامهم من أجلها. أموالُ استرهانٍ لو دُفعت لوقف التمزّق لكانت خيراً عظيماً، ولكنّها تُدفع لشراء الولاء وتغذية الفرقة، فيصبح رزق الشيعي الفقير على إيران ورزق السنّي الفقير على السعودية وأخواتها ويبقى رزق المسيحي الفقير هائماً بين المتعهّدين ووكلائهم. الدرزي هو الوحيد الذي عرف حتّى الآن كيف يبدو مستغنياً حتى لو كان في ضيق، وكيف يظلّ الجهة المرغوبة لدى الجميع والمرهوبة الجانب لدى الجميع، مع أنّها أصغر الطوائف اللبنانية عدداً. وهذا رغم محاولات زرع الفتنة بين المتخاصمين فيها سياسيّاً. لعلّه ذكاء زعمائها مضافاً إلى فطرة أبنائها المجبولة بمزيج الكبرياء وغريزة البقاء، كبرياء الدفاع لا الاعتداء، وغريزة بقاء مَن خَبر أهوال الهلاك وقرّر أن يكون الدرسُ الذي استخلصه منها نهجَ حياةٍ لا يتزعزع.

■ لماذا؟
من المفارقات أن مَن يعطي المتسوّل ليس الغني بل الفقير. على اعتبار أن الطبقة الوسطى انقرضت. والغني لا يجتاز الشوارع فهو طائر، إلاّ حين يقوم برياضة المشي متخلّصاً ممّا فيه من زوائد شحم سُرقت من أمام الجياع.
خلال الفقر ترى حقيقة المجتمع. خلال الثراء ترى حقيقة الإنسان. السفر والخمر والمَيْسِر ليست وحدها ما يَمْتحن جوهر المرء بل أكثر منها الفقرُ والغنى. الغربة بين هذين غربة الحياة عن الموت، وفي تلك لا تُمتحن إلاّ المروءةُ وشهامةُ الكَرَم. وفي الجميع نقيس مَنِ الأكبر: المال من الإنسان أم الإنسان من المال؟ الفقير أكبر لأنّه لا يملك، ولو مَلَك لتغيَّر إجمالاً نحو الأسوأ. وكلّنا يعرف نماذج.
لماذا الاهتمام بالفقراء؟ لأن رَمْيهم لمصيرهم يعني أن الكلب أفضل جدّاً من الإنسان، وأن الإنسانَ غيرُ معنيّ بما يقول إنه يعنيه من ظلْم وحقّ.

■ باب العبور
لم يعد يُعاش إلاّ مع الملائكة. الصغيرة منها، لا ميخائيل ولا جبرائيل، بل الأولاد. إمّا للاغتسال ببراءتهم وإمّا لإغوائهم.
في وقت ما لم يَعُدْ يُعاش إلاّ مع الشياطين، إناثهم لا سيّما. المُريح مع الشياطين هو أنك غير مضطرٍ للاعتذار منهم ولا للشعور بالذنب حيالهم. بل العكس.
ولكنْ لا تُعتّم حتّى تريد شيئاً آخر، وهكذا، ليس للأحياء أكبر من الرحمتين: الخَدَر والزوال. الباقي استسلام أو مقاومة.
تريد شيئاً آخر ولو كان هو الشيء نفسه (الأوفياء يفعلون ذلك) إنّما بشكل آخر، نكهة، أسلوب آخر، بحيث يضيء التغيير فيك نوراً لم يكن.
اقرعي أيّتها الأجراس، لا تسمعكِ غير آذانٍ متضجّرة. ما هناك هو ما ليس هنا، إلاّ من باب العبور.


«نحـن شحّـاذون، حقّـاً»

الفقرُ هو الموتُ الأكبر.
علي بن أبي طالب
الانتقال من حالة الافتقار إلى حالة الفقر، مثل العبور من الوضاعة إلى الوداعة.
جاكلين باسكال
(راهبة ـــــ شقيقة بليز باسكال)

... ونكتب للّه أن يستفيقا:
«إلهي حنانك للفقراءِ وأكياسهم/ يدورون فيها
وتمضي الحياةُ/ فأحلامهم صفعةٌ واضطهادْ
وأيّامهم ها هِيَهْ
كإفريقيّهْ
سوادٌ سوادْ»!
شوقي أبي شقرا
(«أكياسُ الفقراء» 1959)

لأوّل مرّة يتأخّر الشتاء. هل خرج منّي؟ فجأةً في مكتبتي مكانٌ فارغ. هل اختفى كتاب أبي؟ في الكبريتة أيضاً مكانٌ فارغ. الذين يفتحون الطاقات خلسة تزداد شكوكهم كلّما نظروا إليها ويتأمّلون على طول الوقت نُذُر خيانتهم. لأوّل مرّة لم تكن الهديّة قميصاً. كان لديهم طبشورُ الغيمِ. المدينة التي بَشّروها لم تعد واضحة إلاّ بمصابيح المتسوّلين.
عباس بيضون
(من «نقد الألم»)

وسوف أكون دائماً ذلك الذي انتظرَ أن يُفْتح له الباب في جدارٍ لا باب عنده.
فرناندو بيسُّوا
وزِّعوا علينا أشياء جديدة
غير تلك التي بَلِيَتْ
(...) وزِّعوا علينا أجراساً للرقبة
وأخرى للأبواب (...)
وزِّعوا علينا المزيدَ من الملابس
فالشتاءُ المنصرمُ كانَ قاسياً
أكثر ممّا تظنّون (...)
وزِّعوا علينا:
أراضيَ جديدة
ملوكاً
ورؤساءَ جمهوريات (...)
وزِّعوا عصيّاً أغلظ من تلك التي
تتهشَّمُ على أجسادنا فوراً.
وزِّعوا علينا قبوراً لائقة
وأكفاناً أكثر بياضاً
من تلك التي ترسلونها عادةً.
أمجد ناصر
(«منذ جلعاد كان يصعد الجبل»)

أعجَبُ لامرئٍ يبيتُ على الطَّوَى ولا يخرجُ على الناسِ شاهراً سيفه.
أبو ذرّ الغفاري
عندما لم يكن لدى أمّي شيء تُطعمنا إيّاه، ولا زبدة، كانت تمسح لنا العرائس بمزاحها.
برتولد برخت
(1972)

لفرطِ ما أُشاهدُ من صورِ البؤس، بتُّ أعتقد أنَّ اللّه ليس غنيّاً. عنده مَظاهر، صحيح، لكنّي أشمُّ رائحةَ عَوَز.
فكتور هوغو
(البؤساء، 1862)

نحن شحّاذون، حقّاً.
(آخر كلمات لوثر)