يريد الإعلام السعودي ــ الحريري أن يقنعنا بأنّ كتّابه ومثقّفيه يمثّلون رأياً عاماً عربياً واسعاً. يدّعون وجود ملايين العرب ممّن يرون أنّ ما قام به منتظر الزيدي «مهين ومشين»، بينما الحقيقة أن الشارع هو في مكان آخر؛ يبجّل ويقدّس حذاءي منتظر كدليل عجز واستسلام ونضال رمزي
أسعد أبو خليل*
هل أخطأ أبو تمام؟ هل أراد أن ينشد: النعلُ أصدق إنباءً من الكتب؟ سيرة هذا النعل الشهير ستطول وتطول. والصحافة الأجنبيّة كعادتها تنزع نحو التحليلات التبسيطية («الثقافيّة» على نمط الكتاب العنصري «العقل العربي» الذي يستقي منه ليبراليّو الوهّابيّة كليشيهاتهم المُجترّة عن العرب والمسلمين) التي تضفي عجائبيّة وغرائبيّة على المجتمعات العربيّة. المحلّلون في الإعلام الأميركي يتطرّفون في الإهانات للثقافات الأخرى المختلفة عندما يحاولون أن يتصنّعوا حساسيّة نحو تلك الثقافات عبر المبالغة المفرطة في الدلالة على الفوارق بين الثقافات والدول. سخرتُ من حديثهم المتواصل (على مدوّنتي) عن الأحذية كوسيلة تحقير فقط في العالم العربي فظنّوا أنني جادّ. تسارع بعضهم في طلب مقابلات للحديث عن «الأحذية في الثقافة العربية». ماذا تفعل عندما يسألك صحافي جاد عن مفهوم الأحذية في الثقافة العربيّة؟ فاتتهم السخرية. البريطانيّون يقولون إنه ليس للأميركيّين شهيّة للمفارقة أو حسّ السخرية المبطنة. ركزوا في تحليلاتهم على الحذاء، وكأنه هو الموضوع، أو كأن رمي الأحذية على الوجوه ليس مهيناً في كل المجتمعات. بات الحذاء هو القضيّة وليس الحرب الأميركيّة المدمّرة وما أعقبها من احتلال وحشي للعراق.
الرحالة الغربيّون كانوا يشتكون من شعوبنا لأنهم حفاة، أما اليوم فالشكوى من الحذاء. شكاوى الغرب ضدّنا تتغيّر بتعاقب الفصول والعقود. لاحظ هشام جعيط في كتابه «أوروبا والإسلام» أن الغرب غيّر اعتراضاته على الإسلام. كان في القرون الوسطى يشكو تساهل الإسلام في الأمور الجنسيّة والاجتماعية وانعدام ما سمّاه نيتشه «المثال الزهدي». وها هو الغرب يشتكي اليوم من تزمّت الإسلام الجنسي والاجتماعي، فيما هو يساوي بين الوهابيّة الفيكتوريّة والعقيدة الإسلاميّة. كان الغرب يضربنا بهراوة العقيدة الكاثوليكيّة وأصبح اليوم يضربنا بهراوة الليبرالية. وقبل أشهر فقط استقبل معارضٌ أميركي يساري المفكرَ اليميني ريتشارد بيرل برمية حذاء، لكن الإعلام لم يتوسّع في الحديث عن النعال في الثقافة الأميركيّة. فعلوا الشيء نفسه بعد فضيحة أبو غريب: تسارع محلّلو الاستشراق المُتجدّد للحديث عن الرجل العربي، وكيف أن الاغتصاب في الشرج يمثّل مهانة ما بعدها مهانة في الثقافة العربيّة. تسألهم ببراءة مصطنعة: وهل اغتصاب الرجل الأبيض في شرجه لا يُعدّ مهيناً في الغرب؟ يتفرسون فيك باستغراب شديد.
لكن الحذاء بات يتمتّع بشهرة يحسده عليها نجوم فن الوليد. هل هناك من ينكر أن الحذاء الطائر يعبّر عن آلام الشعب العربي وتطلعاته وأحزانه وغضبه أكثر من كل صحافة آل سعود مجتمعة؟ لو تسنّى للحذاء أن ينطقَ، ما عساه يقول؟ هل كان هو أيضاً سيصرخ بوجه بوش؟ أم أنه كان سيلاحظ مفارقة رئيس وزراء الاحتلال وهو يحاول أن يتلقّى «الضربة» بالنيابة عن بوش؟ ثم لماذا هذا الهيجان الشعبي العربي حول الحذاء؟ وهل صحيح أن الحذاء أنعشَ «الوجدان العربي» كما علّق تلفزيون «الجديد»؟ ليس هناك من ينفي (باستثناء أبواق آل سعود وآل الحريري) أن الحذاء يعبّر عن الرأي العام العربي (شاء معلّقو الوهّابيّة أم أبوا) أكثر بكثير من طغاة العالم العربي الذين يلتقون بوش، أو الذين يهزّون أردافهم أمامه للترفيه عنه. لكن هل ردّة الفعل الشعبيّة ظاهرة صحيّة أم ظاهرة مرضيّة في المجتمع العربي؟ هذه الأسئلة تحتاج الى نقاش، ولكن من الضروري استعراض بعض ردود الفعل. والتعليق على ظاهرة الحذاء الطائر يتطلّب ظاهرة أخرى: كيف أن معلقي الإعلام السعودي والحريري ومعلّقاته أطلقوا صرخة واحدة متصلة ضد الحذاء؟ ألم يلاحظ أحد فيهم أن هذا التطابق الكامل في مواقفهم يضرّ بهم ويعزّز مقولة أنصار نظريّة المؤامرة السعوديّة ــــ الإسرائيليّة ــــ الأميركيّة؟ ولماذا لا يسمح الأمير مقرن والأمير سلمان والأمير خالد ببعض التنوّع في الإعلام لحمايته من الفظاظة الدعائيّة؟ ليس هذا همّي على أيّة حال.
أفردتْ محطة الوليد حلقة خاصة عن النعال في برنامج «مع الحدث»، واستضافت المقدِّمة رجلاً أبيض ليحدّثها عن الغرابة في الثقافة العربيّة. وكأن العقاب والقصاص سمة عربية: تحتاج شذا عمر إلى قراءة كتابيْ ميشال فوكو «راقب وعاقب» و«مَولِد العيادة» للتحقّق من تاريخ الرجل الأبيض. وبثت الحلقة «تقارير» لتنوير المشاهد، جاء في واحد منها أن العرب وحدهم يخلعون الحذاء عند دخول المنزل، مع أن الغربيّين في بلادنا يلحظون أن العربي والعربيّة لا يتخلّيان بسهولة عن «الصرمة» (كما يقولون في مصر) في داخل المنزل، كما أن الآسيويّين أحرص من غيرهم من الشعوب على خلع الأحذية. وكان حازم صاغية مضحكاً في الحلقة المذكورة ودعا إلى وقف المزاح والشعر في الثقافة العربية (باستثناء شعر غازي القصيبي وخالد الفيصل). وعندما سأله حمدي قنديل عن وصفه لصدّام بـ«الجزّار» وعدم وصفه بوش بذلك، أجاب صاغيّة، بعد تأتأة وتلعثم طالا، بأن صدّام جزّار «أكثر» وأن بوش لم يقتل شعبَه بل قتل شعباً آخر. تسمع ذلك وتتساءل لماذا لا يحاضر صاغيّة في نظريّات الفكر السياسي في جامعة... الأمير مقرن؟ وأضاف صاغيّة أنه لا يدافع عن بوش. (هو يدافع عنه في منتديات اللوبي الصهيوني في واشنطن لا على الشاشات العربيّة). وهناك من قال بتشفّ إن الزيدي أخطأ بوش، وكأننا نتكلّم عن لعبة كرة السلّة.
مراسلة «الحياة» في نيويورك، راغدة درغام، ظهرت على محطّة تلفزيونيّة أميركيّة للحديث عن الحذاء. بدأت بالقول إنها تشعر بالإحراج من فعلة الزيدي التي وصفتها «المشينة»، وزادت أن الرأي العام العربي «منقسم» حول موضوع الحذاء. من أين يستقون معلوماتهم (أو معلوماتهن) يا ترى؟ هل هناك دلائل شعبيّة على عداء نحو الحذاء في أوساط الرأي العربي؟ إلا إذا اعتبرنا أن طارق الحميد أو أي صحافي في جريدة أي أمير سعودي يمثّل الرأي العام خير تمثيل؟ يتمنّى الواحد منا لو أن الرأي العام العربي يتاح له التعليق عليه في وسائل الإعلام، عربيّة كانت أم غربيّة. لنفترض أن رمية الحذاء هي مشينة، هل مشينة أكثر من حرب تدمير العراق؟ لنفترض أن المعيار «الحضاري» (وهل استُعمِرنا إلا باسم الحضارة؟) يرفض رمية الحذاء، هل هذا المعيار يقبل ليس فقط بحرب التدمير الأميركيّة بل بسياسة عقد اتفاق بين وزارة الدفاع الأميركيّة وشركة «لينكولن» في واشنطن وتكليفها كتابة مقالات ترويجيّة للاحتلال وترجمتها إلى العربيّة ثم وضعها في صحف عربيّة (مُموَّلة من الصومال أو موريتانيا يا ترى؟) بأسماء صحافيّين عرب يتلقّون بدلَ أتعابهم؟ أي لماذا لا تستنكر درغام أو غيرها من مستنكري ضرب نعال الزيدي، سياسة وضع المقالات الترويجيّة للاحتلال في الصحافة العربيّة؟ ومن أساء إلى مهنة الصحافة العربية أكثر: الزيدي أم بوش الذي تسبّبت حروبه بقتل عدد كبير من الصحافيّين في العراق وفي أفغانستان؟
فارس خشان أدان الفعلة وتحدث عن ضرورة الموضوعية الصحافية. فارس خشان يتحدّث عن الموضوعيّة الصحافيّة. لنفكّر مليّاً في الفكرة! إذا أردنا تعريفاً للمفارقة فهي هنا. ولنسأل أدعياء «المهنيّة» الصحافيّة: من أساء إلى المهنة أكثر؟ الزيدي أم سحر الخطيب في خطبة الكراهيّة المذهبيّة مثلاً؟ وعندما رمى خشّان خصماً سياسيّاً له بوصف «الخنزير البرّي» هل كان يتعامل بأخلاقيّات المهنة؟ طارق الحميد سخر من الزيدي وطالب بصحافة رصينة تطرح أسئلة «جادة». ويحرص الحميد على «مهنيّة» الإعلام العربي. لو لم يعرف القارئ أن الحميد يكتب في جريدة الأمير سلمان بن عبد العزيز لقلتُ معجباً إنه لا بد لهذا الصحافي «الرصين» من أن يكون كاتباً في صحيفة نروجيّة أو أسوجية؟ أسئلة جادة؟ على طريقة الأسئلة التي تطرحونها على الأمير نايف في مؤتمراته الصحافية التي تبدأ بالدعاء له بطول العمر وتنتهي بابتهالات لأن يحفظه الله؟ أتلك هي الأسئلة التي تطرحونها على امتداد سنوات بوش على مسؤولين أميركيّين عندما سارعتم إلى ترجمة كتاب تومي فرانكس ونشره متسلسلاً، فيما كانت فضيحة أبو غريب لا تزال تتفاعل؟ أسئلة جادة؟ أم المعايير هي التي تنتهجها جريدتكم التي كانت تشنّ حملات يوميّة على قطر وتتهمها بكل مصائب المنطقة، ثم تعود لتشيد بحكمة الحكومة القطريّة بعد المصالحة؟ هل الأسئلة الجادّة تكمن في سؤال «الحياة» في أول مقابلة عربيّة مع بول بريمر عن رأيه في الأطباق العراقيّة؟
وهناك جمال الخاشقجي (و «الحبّوب»، كما يقولون في لبنان وسوريا، كان بن لادنياً حماسيّاً مجاهداً في الظلاميّة قبل أن يكتشف فجأة نتيجة إلهام ربّاني حبّ الليبراليّة) الذي لام الأميركي لعدم إقدامه على «تحرير العراق» ــــ وفق تسمية بلال خبيز ــــ قبل عقد من الزمن من حرب بوش المدمّرة. هل نسي الخاشقجي أن إعلام أمراء آل سعود (وهو يترأس تحرير جريدة للأمير خالد الفيصل) هو الذي ساهم بحماسة عُصابية في تسويق عبادة فرد الطاغية صدّام؟ أما ديانا مقلّد فقد دعت إلى لغة الإقناع، وقالت بما معناه لندع جانباً جورج بوش وحروبه، فهي مجرّد تفصيل لا أكثر. وهناك أكثر من صوت دعا في إعلام آل سعود إلى مقارعة بوش بالحجّة. هو يقصف ويحتل ويدمّر ويزرع المقالات الدعائيّة في الإعلام العربي ونحن مطالبون بمواجهة كل ذلك بسؤال قوي. والحقيقة أن لا السؤال القوي ولا النعال تواجه الاحتلال. لكن كل هذا كلام، ووعظ عادل درويش (الكاتب في جريدة الأمير سلمان) كلام آخر. رأى أن رمية الحذاء هي «إهانة لكل صحافي على وجه الأرض». وهو، لمن لا يعلم، مؤسِّس للوبي ليكودي في لندن يعمل على محاربة قضيّة فلسطين في الإعلام.
وعمرو حمزاوي بزّهم جميعاً في حكمه على رمية الحذاء بأنها «خرق» لحقوق الإنسان. هذا حكم جديد لم تطلع به حتى الإدارة الأميركيّة. ما هو أمر الليبراليّين العرب؟ هل يزايدون على بوش نفسه في حبهم لبوش وحرصهم على سلامته؟ وماذا نقول عن بوش الذي حوّل العراق إلى أخطر دولة على حياة الصحافيّين في العالم للسنة السادسة على التوالي، وفق رصد منظمة لجنة حماية الصحافيّين؟ وحازم صاغيّة ينتحب ويكرّس مقالتيْن متتاليتيْن للندب والعويل. كيف تفعلون ببوش ذلك؟ كيف تهينون من حرّركم وكان ينوي تحرير المزيد منكم لو أتيحت له الفرصة لتجديد ثانٍ؟ ويشنّف صاغيّة آذاننا بكلام عن «العقلانية» (ويكاد يقول إن الوهابيّة هي ذروة العقلانيّة ــــ الديكارتيّة) وهو في ذلك ينمّ عن جهل بالكتابات الفلسفيّة لمرحلة ما بعد العقلانيّة التي بدأت بإسهامات مدرسة فرنكفورت (حتى لا نتحدّث عن مدرسة سفاسطة الإغريق). ولكنْ لاحظوا المعايير: فتدمير العراق ورمي القنابل والصواريخ بالآلاف وقتل مئات الآلاف من شعبه لا يمثل نقيض العقلانيّة، لكن رمية حذاء هي البلاء العظيم وتكريس ثقافة اللاعقل. ونديم قطيش يستنكر في آن واحد رمية الحذاء لكنه يمدح احتلال بوش للعراق لأنه سمح للزيدي بها.
أما اليساري السابق (الهائم على وجهه في محلّة الزيدانيّة) فقد وجد في رمية الحذاء عملاً إرهابيّاً ودعا إلى الالتفاف العام (لأن جماهير الأمة تسارع إلى تنفيذ أوامره) حول نوري المالكي لأنه يحظى بشرعيّة بوشيّة (ولأن جدّه شاعر؟).
عبد الله اسكندر كتب (في جريدة خالد بن سلطان) أن بوش لم يتعرّض للإهانة لأن مفهوم ضرب الحذاء يختلف بين ثقافة وأخرى. أجل، يا عبد الله. في أميركا، عندما يضرب المرءُ رجلاً على وجهه بالحذاء يُعدّ الأمرُ مزحة، أو فعلاً مماثلاً لضرب الحبيب بالزبيب في بلادنا. من أين تستقون أفكاركم وتحليلاتكم، أخبرونا. ولماذا هذا الضيق وهذا الاستفظاع لضرب الحذاء بين كتّاب لم تحرّكهم معاناة الشعب العراقي (حتى لا نتحدّث عن معاناة الدول العربيّة المتحالفة مع آل سعود)، وإن حرّكتهم فهم يلومون العراقيّين على معاناة الاحتلال.
الحكومة العراقيّة أدانت الفعلة هي أيضاً ووصفتها بـ«تصرف همجي مشين لا يمتّ إلى الصحافة بصلة». هنا وصفة لمأزق حكومة احتلال معيّنة: عليها من أجل أن تستحق شرف خدمة الاحتلال أن تتماهى مع معايير الاحتلال بالنسبة إلى أصناف الشعوب وأثمانها. من هنا، فإن أنظمة الاحتلالات تشرّبت العنصريّة المُوجّهة إلى الشعوب نفسها التي تنتمي هي إليها. هذا ما يفسّر خطاب عرفات وسلفه محمود عباس اللذين اعترفا بصراحة لافتة، أن حياة الجندي الإسرائيلي أثمن من حياة المدني الفلسطيني. بناءً على ذلك، فإن حكومة احتلال نوري المالكي تعترض على رمية حذاء بوجه بوش ولا تعترض على رمية قنابل وصواريخ أميركية ضد سكان عراقيّين مدنيّين، لأنهم مقتنعون بأن حياة المحتلّ أثمن من حياة الشعب الخاضع للاحتلال. هل يمكن نوري المالكي (الذي لا يمكنه أن يفوز بانتخابات حرّة لا طائفيّة) أن يصف القصف الأميركي العشوائي في العراق بأنه «همجي» و«مشين»؟ وهناك في الحكومة العراقيّة من تحدّث عن مخالفة رمية الحذاء لواجب إكرام الضيف. من هو الضيف هنا؟ هناك 150،000 ضيف أميركي مدجّج، وبوش هو رب المنزل والمالكي هو الضيف.
ولكن في المقابل الآخر، هناك الحماسة الزائدة الصادرة عن «إعلام الممانعة» في العالم العربي، وهو يعبّر ــــ لغيظ كتّاب آل سعود ــــ عن اتجاهات الرأي العام العربي أكثر بكثير من إعلام أمراء الزيت الأسود. رأى أن رمية الحذاء أعادت العزة إلى الأمة ولقنت بوش درساً. ولكن في هذا الابتهاج برمية الحذاء، تعبير عن عجز وعن استكانة فظيعة. ونظريّة «العمل الجماعي» في علم الاجتماع تقول باعتماد الفرد على نفسه في القيام بالعمل، لا بالاتكال على غيره لفعله، وإن أيّده، وذلك من أجل تحقيق عمل جماعي فعّال لا فردي منعزل (هذا ما عناه الثوري روبسبيير عندما قال إن «الشعب سامٍ، أما الأفراد فهم ضعفاء»). فالعمل الفدائي لم يكن عملاً جماعيّاً، بمعنى أن الناس أيدته من بعيد لاعتقادها أن هناك عدداً كافياً من الذين سيقومون به. وتبجيل رمية الحذاء تسليم غير مباشر بحالة عجز واتكالية مطلقة لا يمكن أن تكون إشارة خير في الثقافة السياسية العربيّة. تبجيل الحذاء تعبير حزين عن حالة عجز، وإن استحق بوش جبلاً من النعال وصفعات من الذلّ. لكن: هل يتساوى الحذاء بالاحتلال؟ هل قرّبنا الحذاء من تحرير العراق أو فلسطين؟ أم أن الحذاء يتحوّل إلى كفاح متخيّل ضد العدو؟ ثم لماذا نطق نعل الزيدي وصمتت ملايين النعال العربيّة المُهلِّلة بصمت؟
طبعاً، يمكن كفاح النعال أن يكون فعّالاً لو أنه يعكس فعل «العمل الجماعي»، أي لو قام به متظاهرون كجزء من تحرّك اعتراضي. يكون النعل أكثر إيلاماً لو وجّهه عربي إلى أي من مُستقبلي بوش في ربوعنا والقاطنين فوق صدورنا. طبعاً، هناك رمزيّة إذلال بوش، وهي رمزيّة لا يُستهان بها أبداً، وقد التقطتها شعوب حول العالم، وخصوصاً في أميركا في أوساط كارهي (وكارهات) بوش.
لكن النضال الرمزي ليس نضالاً، وخصوصاً ضد عدو لا يستعين بالمرمز إطلاقاً في حروبه واحتلالاته. إن الصراع مع الصهيونيّة صراع، أرادته الصهيونيّة، صراع حديد ونار. والنعال لا تقاوم الطائرات المقاتلات، حتى لو انتشت الأمة برمية حذاء من باب «فشّة الخلق» لا أكثر. في المقابل، فإن استهجان مطبّلي الجنادريّة لرمية النعال ينمّ لا عن ذوق رفيع ولا عن أخلاق سامية ولا عن حرص على المهنة، بل عن قرار عربي ــــ إسرائيلي ــــ أميركي رسمي بتغيير أهواء الرأي العام العربي وتطويعها من خلال الترويج لقيم ومفاهيم ولا أخلاقيّات تمهد ليس فقط للتطبيع مع إسرائيل، بل لتيئيس الناس بهدف إخضاعهم للصهيونيّة وللأنظمة ولاحتلالات أميركا. وهل يصبح تعظيم رامي الحذاء وسيلة غير مباشرة للدفع باتجاه كفاح سلمي ضد الاحتلالات الأجنبيّة في بلادنا؟ هذه الأسئلة ضروريّة قبل أن ينجرّ دعاة النعال في بلادنا إلى مسارات قد لا يتمنّونها.
ولكن هناك ما يستوقف بالفعل في سجال النعال. أولاً، من اللافت أن كاتباً واحداً لم يحدْ عن الموقف المُعلن في الإعلام السعودي باستفظاع رمية الحذاء. هذا ينطوي على تراصّ غير اعتيادي ويعزّز ما هو مُلاحظ عند القرّاء: إن المواقف الصحافيّة أوامر وظيفيّة، لا أكثر. أمن المعقول ألا يكون هناك من مؤيّد واحد في كل شبكات الإعلام السعودي ــــ الحريري (باستثناء جهاد الخازن)؟ كل هذا الاتفاق هو توارد خواطر بريء؟ وفي المقلب الآخر، لماذا يصرّ أنصار الممانعة على دعم النعل بحماسة من دون مناقشة الأبعاد؟ الخطورة في الإنتشاء هي في تعزيز نضال الصدفة لا نضال التخطيط الجدّي ضد عدو لا يعترف بحق أو قانون أو رادع أخلاقي.
الأمر الثاني، إن حماسة النعال تعكس حالة غضب عارمة في الرأي العام العربي... المستكين. ثمة معضلة سياسية في الثقافة السياسية العربيّة اليوم: هناك دلائل وقرائن على أن الرأي العام العربي من السعوديّة إلى المغرب لا يوافق على سياسات حكوماته، وهو يعارض (لأسباب سياسيّة لا ثقافيّة ولا دينيّة كما ظهر في استطلاع شامل أجرته مؤسّسة زغبي في العالم العربي ولم ينشر، وإن أتاح لي جون زغبي الحصول على نسخة منه) سياسات أميركا وحروبها حول العالم. لكن إيلي ناكوزي تجاوز الأمر عندما نصّب برهم صالح ممثلاً للرأي العام العربي. ثم لماذا لا يظهر من تعليقات معلقي آل سعود وآل الحريري أي حس للسخرية أو الفكاهة على الحدث؟ حتى الإعلام اليميني الموالي لبوش، بما فيه «فوكس نيوز»، رأى فكاهة فارقة في مشهد رشق بوش بالنعال. لكن ثقافة آل سعود لا تقبل المزاح. فهي جادّة في خدمتها للمصلحة الأميركيّة.
وإذا كان هناك اعتراض مُحقّ على التهليل المُفرط لرمية الحذاء، فهناك اعتراض أكبر على من يعمل على تلميع حذاء جورج بوش إلى آخر يوم من ولايته.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)