السكون الذي تعرفه صيدا لا يعكس صخب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية الذي عاشته المدينة الأقرب إلى بيروت. شيء ما غيّر الملامح فيها، البلدة العتيقة هجرها السكان إلى أحياء حديثة، دور السينما أغلقت أبوابها، ورائحة الزهر والليمون لم تعد تنتشر في الأحياء والأزقة
كامل جابر
يمخر نبيل مكاوي عباب البحر قاصداً «زيرة» صيدا، يمارس طقساً «حنينياً» خاصاً به، بعد أن يعتلي مركباً متواضعاً من المراكب السياحية الراكدة بانتظار فرج ما في ميناء المدينة؛ إنه «نحس الشتاء» يقول بحار من أصل 15 يلحسون مبرد الانتظار والملل كلما حمل البحر إلى مدينتهم أنواء المطر.
يعاين نبيل المدينة وهي تلوذ مساءً بالصمت والسكون، «وخصوصاً في أعقاب انتشارها السكاني والاقتصادي الأوسع في تاريخها، منذ مطلع السبعينيات»، ارتفعت المباني على حساب بساتين الحمضيات التي كانت عنوان عائلات وحرفة معظم أبنائها، ومبعث ثروات العديد منهم. أبنية شاهقة من إسمنت لا تنم إلا عن جماد، استطاعت أسر المدينة الأقرب بالمسافة والزمن إلى بيروت.
صيدا التي كان يرصدها زوار «الزيرة» على «سجيتها» منذ نحو أربعين عاماً، اختلفت اليوم كثيراً عما كانت عليه، فالبلدة الأم والأصل، هي التي كانت إلى جانب البحر، أما أكتافها الشمالية والشرقية والجنوبية، فجلها كان من بساتين الحمضيات على مختلفها، ولكثرتها كانت المدينة تتميز برائحة الزهر لأكثر من ستة أشهر في السنة، ثم رائحة الليمون والحامض، كل ذلك من شأنه إذكاء عطر الحرفة الأكثر انتشاراً وصيتاً، صناعة الحلويات؛ «لتستقبل الزوار بنكهة سكّر بساتينها». يقول نبيل: «اليوم لا رائحة ولا لون في صيدا... أما كروم الزيتون في المرتفعات المطلة من عبرا والهلالية وسيروب، فلا أثر لها لولا بعض الزيتونات المقاومة للمد العمراني».
لا مكان أو وقت للصخب في حياة الصيداويين، حتى في عزّ تخاصمهم السياسي؛ وكانت السنوات العشرين الأخيرة كفيلة بأن يرخي المنحى الديني بظلاله على أكثر الصيداويين، لذلك باتت مدينتهم موئل المساجد التي يتراوح تعدادها بين ثلاثين وأربعين، فضلاً عن عشرات «المصليات»؛ هذا الأمر من شأنه إقفال المرابع الترفيهية والمقاهي خارج المدينة العتيقة «البلد»، أو الحدّ منها، وتحريم الخمرة وتقييد الحركة السياحية في صيدا.
المدينة التي يحتضنها البحر من طول جهتها الغربية، تفتقد إلى المسابح الخاصة أو العموم، إذ إن ارتداء المايوه ممنوع عند شواطئها؛ ولولا بعض الاختراق لجليد المحرمات والممنوعات الذي تكرسه «استراحة صيدا»، لكان الشاطئ بأكمله أقفل على سياحة «متزمتة». ويمكن القول إن ما بقي للصداويين هو ظاهرة الجلوس عصراً على أرصفة الشاطئ هرباً من الرطوبة، ولتدخين النراجيل أو ممارسة رياضة المشي والاستمتاع بغروب الشمس.
في السنوات الخمس الأخيرة احتلت المطاعم الضخمة جزءاً من الواجهة البحرية قبالة قلعة صيدا البحرية، وقامت على أنقاض بعض مرابع الحرف اليدوية التي اشتهرت بها عاصمة الجنوب.
كان للتطور العمراني والاقتصادي الأثر البالغ على نمو صيدا واتساعها، فنشوء الأوتوستراد الشرقي قبل عقدين ساهم في ولادة أحياء سكنية جديدة و«مدن» تجارية وصناعية، وجاء الأتوستراد البحري ليذهب بـ«بحر العيد» الأشهر في ذاكرة صيدا وعاداتها، وتقتصر احتفالات اليوم على نحو أربع أو خمس أراجيح و«دواليب هواء» تلتزم أعياد الفقراء.
«المولات» التجارية تحل مكان دور السينما القديمة: أمبير، روكسي، كابيتول، ريفولي، الحمرا، هيلتون، شهرزاد، إشبيلية وغرانادا؛ أسماء حفرت مكانتها في ذاكرة أبناء صيدا، ولولا بعض العروض «اليتيمة» التي لم تزل تقدمها سينما «إشبيلية» و«شهرزاد» في مواسم الأعياد، لانتفت هذه الدور التي كانت تحوّل ليل صيدا إلى نهار، وتُخرج عائلاتها من بيوتهم لدعم حركة ثقافية ساهمت في تنامي الحركة السياسية، وخصوصاً بعد التصاق المدينة بقضية فلسطين من خلال مخيم «عين الحلوة»، وانطلاقة شرارة الثورة التي قادها الشهيد معروف سعد.
الحمامات الشعبية ــــ «الورد» و«الشيخ» و«البراني» و«الزقليط» ــــ بدأت تفقد صيتها هي الأخرى، بعضها يستعيد شيئاً من المجد في مواسم معينة أو في شهر رمضان.
مقاهي صيدا كانت ترتبط بتجمعات أبناء الحرف، كالصيادين والبحارة وصانعي ماء الزهر و«البستنجيي» وغيرهم، وقد حافظت على أسمائها إلى اليوم، ولكل «قهوته»؛ لكن في غياب الحكواتي شاغل بال الناس بحكايا عنترة والزير. وإن همدت مقاهي الشاكرية نوعاً ما، فمقاهي: القزاز (الزجاج) وبشاغة وزهرة ورجال الأربعين؛ داخل البلدة القديمة وعند أطرافها؛ لم تزل مهد لقاء المسنين وأبناء المهن والحرف.
مقهى «أبو النواس» في شارع رياض الصلح، ملتقى اليساريين وبعض النخب الثقافية الصيداوية، تحوّل إلى مبنى مصرفي قبل نحو خمس سنوات، مسدلاً الستار على ملتقى ذاع صيته أربعين عاماً وكان عنواناً في المدينة.
«جمعية الأدب والثقافة» التي تأسست قبل نحو ستين عاماً لا تزال تلعب دوراً مهماً، فيما انطوى دور مركز «معروف سعد الثقافي» المميز، بعد رحيل النائب مصطفى سعد؛ وتنتشر ظاهرة مدارس مؤسسة الحريري وجمعياتها التي يدور في فلكها المناصرون والمحازبون لتيار «المستقبل».
لم تخطُ البلديات المتعاقبة على صيدا في الربع قرن الأخير، أية خطوة من شأنها أن توفق بين الاتساع الجغرافي والنمو الاقتصادي وبين الحفاظ على البنية العائلية والاجتماعية والثقافية، وتعزيز الذاكرة. وأكثر ما يشغلها، ذاك الجبل الجديد المنشأ، المطل على المدينة من جنوبها، المتولد من تراكم النفايات.


... توأم عكا


ثمة حقيقة تقرأها العين بالمشاهدة «من وحي مقولة يعممها السياح»، وخصوصاً لمن زار منهم المدن البحرية المتوسطية هي «إن صيدا من البحر تشبه إلى حد كبير مدينة عكا في فلسطين». ويشيعون أيضاً: «إن الذي بنى عكا هو عينه الذي بنى صيدا».
يحن كبار السن في صيدا إلى استعادة الذكريات، فيرتادون أزقة «البلد» القديمة، موئلهم الأول؛ في ظل تنافس محموم بين آل عودة وزيدان والحريري على «صحوة» المشاريع المحاكية للتراث.