منى عباس فضل *من بين مظاهر عدة للحراك السياسي على الساحة البحرينية أخيراً، التي تتصدّرها الندوات والتظاهرات والإضرابات والاحتجاجات الحقوقية المتعلقة بالإفراج عن الموقوفين، فضلاً عن توفير فرص عمل ووحدات سكنية وهبات أراضٍ لذوي الدخل المحدود وغيرها، ثمة ما يتكثّف الحديث عنه أيضاً عن تراجعات الإصلاح السياسي وآفاقه المستقبلية، ولعل أبرزها ما عبّر عنه الحدثان التاليان:
الأول: تصريح لوزير الداخلية، على خلفية مشاركة أحد نواب المعارضة في البرلمان في الكونغرس الأميركي بواشنطن، ونائب آخر في جنيف، وما تداولا بشأنه عن الأوضاع المحلية المتعلقة بحالة التمييز والفساد والتجنيس السياسي وغيرها. خلاصة تصريح الوزير تمحورت حول منع المواطنين من المشاركة في أي ندوات خارجية أو تصريحات إلا بأذن من الجهات المسؤولة. وبحسب المعنيين، فإن قرار المنع استند إلى المادتين 134 و134 مكرّر من قانون العقوبات الذي جرت صياغته في أعقاب اعتقالات 1976 بموجب قانون أمن الدولة، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد طيلة 27 سنة، واعتقل على أثره المئات من السياسيين والنقابيين، كما عطلت المؤسسات السياسية والأهلية برمتها.
وتنص المادتين على «معاقبة وسجن كل مواطن أذاع عمداً في الخارج أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة حول الأوضاع الداخلية للدولة»، فضلاً عن «معاقبة وحبس كل مواطن حضر بغير ترخيص من الحكومة أي مؤتمر أو اجتماع عام أو ندوة عامة عقدت في الخارج، بغرض بحث الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في دولة البحرين أو في غيرها من الدول، وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بدولة البحرين أو النيل من هيبتها أو اعتبارها. ويعاقب بالعقوبة ذاتها إذا اتصل بالخارج، وبغير ترخيص من الحكومة بممثلي أو مندوبي أية دولة أجنبية أو هيئة أو منظمة أو جمعية أو اتحاد أو نقابة أو رابطة».
أما الحدث الثاني، فقد جاء مع إصدار «تقرير الرقابة المالية» وما أثير من لغط بشأن إحصاءاته وتحليله المالي، إضافة إلى ما جرى في سياقات تداول تفاصيله، من إقالة مفاجئة لوزير الإعلام إثر مقابلة في برنامج للتلفزيون المحلي «الميزان»، أُجريت مع رئيس جمعية سياسية معارضة («وعد») ونائب سابق، وكان التقرير موضوعها الأساسي، بما كشف الغطاء عنه من انعدام للشفافية في الإفصاح عن مصروفات وزارتي الدفاع والداخلية في الميزانية العامة.
رأى المراقبون أن هذين الحدثين يمثلان تعبيرين فاقعين عن تقلص مساحة حرية التعبير وممارسة حق المعارضة العلنية. وعليه، هل ثمة ما يؤكد التراجعات السياسية؟ شكلياً، الإجابة: نعم! ضمنياً، الإجابة الموضوعية تتطلب مراجعة لمفاهيم علم الاجتماع السياسي.
الأكاديمي المصري فتحي العفيفي يفيد أنه لا يمكن الحديث عن الديموقراطية وسبل تعزيز مساعيها قبل التأكد من وجود تعددية سياسية حقيقية. فلا مباراة دون توافر لاعبين متكافئين ومتماثلين، لا توجد مباراة يستعرض فيها لاعب واحد بمفرده، وإلّا فسيتحوّل المشهد برمته إلى شيء أشبه بألاعيب البلياتشو...». (مجلة المستقبل ـ عدد 353، تموز / يوليو 2008 ص 48).
كما سبق لأستاذ الاجتماع السياسي فيليب برو أن قال «كلما ازدادت العلاقة السلطوية شدة وفعالية، اتجهت لإنكار الاختلاف في الفعاليات والطموحات بين الكائنات البشرية، إما سطحياً بنزعها لكل إمكانية رؤية خارجية للتعبير عن التباين (معيار الأوضاع الاستبدادية)، وإما بقيامها بإجراء قولبة جديدة جذرية للتمثلات التي يكوّنها الخاضعون عن مصالحهم وطموحاتهم».
إلى هنا، ومن هذا المنطلق تحديداً، لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي بحريني ولا تمكين وتنمية سياسية، بل ولا حتى عن ديموقراطية مزعومة، حينما تقيد الحريات وتقلص مساحات التعبير عن الرأي المعارض، وتنزع عن الممارسة السياسية أهم عدتها وعديدها من أدوات رقابة ومساءلة وشفافية.
لا يمكن ذلك والسلطة تتلبس الخشية وتفرض طوقاً حديدياً على المواطنين يبتسر لهم مفهوم الحرية وأحقية وجود معارضة سياسية تعبر عن معارضتها. فما ينم عنه تصريح الداخلية، فضلاًَ عن ردود الفعل الانفعالية تجاه التداول بشأن مظاهر التمييز والفساد واختلال معايير الرقابة المالية وغيرها، لا يعدو إلا تعبيراً عن تمدّد في ممارسة السلطة وفرض احتكارها لسلطة اتخاذ القرار، ذلك على الرغم مما تشي به من مظاهر حداثة سياسية، تتمثل بوجود دستور وقوانين وانتخابات وجدل تحت قبة البرلمان. بيد أن ممارسات الحقبة السابقة للسلطة لا يزال يراها بعض المراقبين حاضرة وبقوة تمنع المساءلة البرلمانية وتحد من صلاحيات السلطة التشريعية، كما تعيق استجواب الوزراء والتسريع بإصدار تشريعات، واستحداث أخرى تسهم في تطوير العملية السياسية والارتقاء بها، إلى جانب تجاوز السلطة التنفيذية لصلاحياتها وفساد بعض إداراتها.
لا ريب أن لأي عملية إصلاح سياسي لكي تنجح، اعتبارات وشروطاً، لا تقتصر على مسألة ادعاء وجود ممارسة ديموقراطية أو الاعتراف بالتعددية الشكلية. فالأخيرة تعني ما تعنيه من الإقرار بدايةً بوجود المعارضة، وبأهمية نشاطها ودورها في العملية السياسية وتوسعة هامش أنشطتها وأطره واتجاهاته، فمن المعروف عند فيليب برو أن «للمعارضة انشغالاتها المختلفة، ومن البديهي أنها تسعى وظيفياً لإثارة التوقعات والمتطلبات، إذ يكمن جل اهتماماتها في الإشارة إلى الاستيلاءات القابلة لإضعاف الحكام».
والجدل السياسي برأيه، ركن أساسي من أركان الديموقراطية التعددية، فهو القاعدة التي تتغذى باستمرار عن طريق التجابه بين التحليلات أو المجادلات التي تؤدّي دوراً هاماً في مراقبة عمل الحكام، كما أنها ــ أي المجادلات ــ تسهم في إنارة الرأي العام، وهذه على الأقل هي وظيفتها الرئيسية بنظر المبادئ الديموقراطية، إلى جانب إسهامها في بناء الميدان السياسي وتحديد موقع الفاعلين في معسكر ما بالنسبة إلى بعضهم بعضاً.
ومن فضائل الجدل السياسي والاختلاف، أنه يحط من قيمة العنف والمجابهات الجسدية التي يحل محلها تبادل للأفكار، فيكون جدلاً اقتصادياً عندما يتعلق الأمر بمجابهات بين الأرقام والملفات وكشوف الحسابات، أو العكس ذا طابع أخلاقي عندما يتغذى الموقف على قيم كالعدالة والحرية والتضامن...
لهذا وذاك، فإن مسارات أي إصلاح سياسي لا تستقيم مع استمرار التلويح والوعيد بقوانين الفترة المنصرمة أو ببتر مفهوم الديموقراطية ونتف ريشها، فضلاً عن التنكر لنشاط المعارضة السياسية كحق له أوجه متعددة في سياق العملية السياسية المتأسسة على التعاقد والتعددية، وبالتالي اختلاف الرؤى والمصالح.
ولا يتقدم الإصلاح قيد أنملة إن حصرت المعارضة السياسية في زاويا محددة سلفاً تتكوّن من قائمة لا أول لها ولا آخر من الممنوعات والمرغوبات. كل ذلك لن يسعف في إعادة البناء، وكما قال أحدهم: إذا كانت ممارسة السلطة على الغير تعني الحّد من حريته، فإن مسألة رضى الغير تكتسي أهمية كبيرة!
* باحثة بحرينية