غسان سعود
بعد الفضل شلق، كرّت سبحة اليساريين الملتحقين بالتيار الرأسمالي ــ الإنساني، منذ منتصف السبعينيات. وافق الملتحقون على شروط اللعبة كاملةً، شرط امتلاكهم حقَّ تسجيل الملاحظات في السرّ. اليوم، بعد ثلاثة عقود من العيش في أحضان الرأسماليين، لا يتردّد شلق في القول إنّه يبادلهم الكره. ما يثير الاهتمام حقاً في تجربته، هو أنّ ثمّة سياسياً لبنانياً أو رجل أعمال أو مستشاراً لرئيس حكومة، قرّر ـــ من دون ضغط من أحد ـــ الاستقالة والعودة إلى حياته البسيطة.
لا يروي شلق الكثير عن طفولته، فحياته تبدأ مع تفتّحه على السياسة. «كان والدي يُدرِّس في سوريا، وكان الجيش العربي عائداً من فلسطين مهزوماً. وبين حديّ العروبة والهزيمة، لم يكن أمام المرء خيارات كثيرة، فإمّا أن تكون بعثياً أو شيوعيّاً. لكنّ موقف الشيوعيين من الرئيس جمال عبد الناصر، ورفضهم وحدة مصر وسوريا (1959) واعتراف السوفيات بإسرائيل، كلّها عوامل دفعتني إلى اختيار البعث».
لكنَّ خياره لم يدم طويلاً. إذ خرج شلق من «حزب البعث» مع غيره من المنشقّين بقيادة ياسين الحافظ (1964) اعتراضاً على «الانفصال»، وشارك في تأسيس «حزب العمال الثوري العربي» الذي جمع يومها الماركسية مع الوحدة العربية الناصريّة. سفره إلى الولايات المتحدة قطع تجربته الحزبيّة تلك، لكنّه طرد من البلاد التي ذهب ليدرس فيها هندسة الميكانيك، بعد خمس سنوات من الهجرة، «لأسباب سياسيّة». تضحك زوجته حين يقول «افتروا عليّ»، فيروي أنّه كان صلة الوصل بين السود والبيض في أكثر من جامعة، إضافةً إلى نشاطه مع الحركات المناهضة لحرب فيتنام. إنّه من ذلك الجيل الذي رفض الحصول على «البطاقة الخضراء» طريقاً لاكتساب الجنسية الأميركية التي «ستحلّ محلّ جواز السفر اللبناني، وهذا يتناقض مع العروبة».
ابتسم له الحظ، فور عودته، فعمل في «دار الهندسة» ستّ سنوات، لكنّ الوظيفة لم تملأ حياته. «كنت مجبولاً بالسياسة، وكان اليسار الماركسي أفقي الفكري والسياسي والنضالي». كانت الموجة اليسارية تخضّ العالم العربي، وكان الحلم ثلاثيّاً، تحرير فلسطين، رفع نير الظلم عن الفقراء، وتأمين تكافؤ الفرص. في تلك الفترة، نشط شلق لفترة وجيزة مع «منظمة العمل الشيوعي»، ثم مع «حزب العمال». وعلى أثر نقاشات مع كمال جنبلاط، انضمّ إلى «الحزب التقدمي الاشتراكي». حدث ذلك بعدما عبّر شلق ورياض رعد ذات مرّة عن صعوبة انضمامهما إلى الحزب «لأنّهما ماركسيان»، فرد جنبلاط: «فلنمركس الحزب». هكذا تسلّم شلق مكتب الإرشاد، وجريدة «الأنباء» ومسؤوليات أخرى، لكنّه استسلم في النهاية قائلاً لجنبلاط «بوجودك ما في حزب، وبغيابك ما في حزب».
في تلك المرحلة، تقاعد والده الكاتب علي شلق، وكان شقيقه يتابع تخصصه في جراحة الطب، فاضطر الفضل إلى الاهتمام بأهله، وبأسرته الصغيرة بعدما تزوّج ورزق بجهينة وعلي. وكانت الحرب الأهليّة قد فعلت فعلها بحياته، إذ دُمِّر منزل العائلة في كفريا ــــ الكورة، واحتُلّ منزله في عين الرمانة، فسكن في شقق متواضعة في الشياح ثم في الزيدانية (بيروت).
في عام 1978، كان الفضل شلق الذي استقر مع عائلته في لندن، في زيارة إلى لبنان بحثاً عن وظيفة إضافيّة، وإذا بصديقه زهير وفا يعرفّه إلى رفيق الحريري. هنا، يتمهّل ليخفي حسرة حقيقية، مؤكّداً أنّ عشر دقائق فقط غيّرت حياته. بعد فنجان قهوة مع الرئيس الراحل في المطار القديم، وافق على العمل مع الحريري، واتفقا على اللقاء في باريس. حينها تناول الحريري محرمة الورق التي كانت مع القهوة، وكتب عليها رقم عادل البساط في فرنسا طالباً من الفضل شلق مهاتفته فور وصوله إلى العاصمة الفرنسيّة.
ومن المطار إلى «دار الهندسة»، قدّم شلق استقالته من دون أن يعلم أحد بقراره. تشعّبت علاقته مع الحريري بسرعة، من الأعمال في فرنسا والسعودية وصيدا وبيروت ــــ يروي بشغف إشرافه على تنظيف شوارع العاصمة بعد انتهاء الاقتتال ــــ إلى السياسة، والنقاشات شبه اليوميّة مع الحريري طوال التسعينيات.
أثار شلق موضوع مواقفه اليسارية منذ اللقاء الأول، فأشار الحريري إلى صديقه عدنان الزيباوي ــــ عضو منظمة العمل الشيوعي سابقاً، قائلاً: «إنّه أقرب الناس إلي، ليس عندي مشكلة». يعدّد أعماله مع الحريري كمجمع كفرفالوس، و«أوجي ــــ لبنان»، و«مجلس الإنماء والإعمار»... ويؤكد أنّها قامت كلّها على أساس «فلسفتي اليساريّة». ولا نعلّق، أو نعترض، أو نسأل عن تحديده لـ«اليساريّة»، ما دام الحديث حديث ذكريات... يريد شلق إعادة قراءة مسيرة الراحل بصفة شخصيّة إنسانيّة، لا سياسيّة. فالحريري «كان قوميّاً عربيّاً باتجاه ناصري صريح، وكان يؤمن بأنّ الوحدة العربية هي الحلّ».
«كنت أناقش وأعترض وأصيح وأطالب لكنّي في النهاية كنت أنفذ»... أمّا الخطوة الناقصة الوحيدة في مسيرته مع الحريري، فيقول إنّها جريدة «المستقبل». «لم نأخذ وقتاً كافياً للتحضير، وقد فوجئت بالتسطيح الثقافي، وبقلّة المعرفة والجديّة، إضافةً إلى المفهوم السياسي للصحافة. كنت أتطلع إلى صحيفة تخدم الديموقراطية بوجه العسكر، لكنها تحولت بوقاً لسياسيين أحتقرهم وهم يكرهونني. وقد حاولت جاهداً معالجة الوضع. لكن الجريدة التي أسستها، ولدت تافهة وما زالت كذلك».
بعد ربع قرن في ظلّ الحريري، دخل شلق يوماً إلى قصر قريطم ليبلغ صاحب الدار قراره بالتقاعد. «من دون سبب أو لسبب لا أعرفه. كان بلاط الحريري يغصّ بالمتنافسين والمتواطئين الذين أشعر بأنني لست منهم»... بعد اغتيال الحريري مباشرةً، زار شلق قريطم، لكنّه آثر البقاء في منزله بعد الدفن، احتجاجاً على الواقفين في العزاء ممن «بنوا أمجادهم على شتم الحريري».
في شقته الفخمة في الرملة البيضاء، يقضي شلق اليوم وقته «متقاعداً جدّاً». يكتب مقالاً أسبوعيّاً في جريدة «السفير» ويمارس «مهنة التشاؤم لتيقّنه أن الأمور ذاهبة إلى الأسوأ». لا يخفي الحسرة على كسله في إبراز نفسه، مؤكّداً أن النائبة بهية الحريري نفسها فوجئت، بعد قراءتها لكتاب جورج فرشخ «الفضل شلق: تجربتي مع الحريري»، بحجم الإنجازات التي يقف وراءها. بعد كلّ تلك المسيرة، يقول الفضل: «أنا اليوم، وحدَوي ـــ ناصري ــــ ماركسي».
خلافاً لعائلات معظم السياسيين، لا تغيب عائلته عن الأنظار حين يحضر صحافي إلى المنزل، وكثيراً ما يتدخّل أحد أفرادها ليذكّره بفكرة ما. يتحدّث بزهو عن ابنه علي الذي درس الهندسة الزراعية، ثمّ نال الدكتوراه في الاقتصاد البيئي، ويعمل الآن في فرنسا. وعن ابنته جهينة الموظفة في أحد المصارف. وعن ابنتة الصغيرة سلمى التي تتابع دراستها في مجال «علوم الحياة» في الولايات المتحدة. يتردّد صدى الضحكة «الشلقيّة» الاستثنائية عالياً، حين يتحدّث عن الأحفاد، فهو يعوّض انشغاله عن عائلته سابقاً، باهتمام مضاعف تجاه أحفاده. يشير ختاماً إلى تأثّره بثلاثة: بوالده في الإقبال على الحياة بشغف، بياسين الحافظ في السياسة، وبميشال عاصي في المجال الفكري. ويختم: «أنا في الأصل عنيد أرفض التبعية لأحد».


5 تواريخ

1943
الولادة في كفريا (شمال لبنان)

1973
بدأ العمل مع «دار الهندسة»، وبعد عام تزوج السيدة غانية، ولهما: جهينة، علي، وسلمى

1978
تعرّف إلى رفيق الحريري وبدأ العمل معه، متقلّداً عدة مناصب، وقد عيّن رئيساً لمجلس الإنماء والإعمار (1991) ورئيساً لمجلس إدارة أوجي ــ لبنان، ومديراً عاماً لمؤسسة الحريري، وعيّن وزيراً للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية (1995)، ورئيس تحرير «المستقبل»

2002
استقال من العمل مع الحريري

2009
يعمل على كتاب بعنوان «الدولة والهوية والعروبة»