هل للآباء أو الأمّهات الحقّ في تحديد خيارات ابنهم أو ابنتهم السياسية، أو حظر فكرٍ ما يتعارض مع آرائهم الخاصة المتوارثة أو المكتسبة تبعاً لأحكام مسبقة وقناعات معيّنة بـ«امتلاكهم» لأبنائهم؟ سياسة القمع التي تمارس في بلادنا تُمارس في حالات كثيرة داخل ما يفترض أنه نواة المجتمع «الأسرة»
خضر سلامة
«ربّيت ابني 20 سنة ليطلع بالآخر شيوعي؟!» بهذا تردّ أمٌّ على أفكار ابنها الـ«ماركسية»، يحتدم الحوار، يتخذ طابعاً تصادمياً وتحتله العبارات المسيئة للفكر الداخل حديثاً إلى لون الأسرة الإيديولوجي الواحد، وينتهي بخروج الابن من المنزل غاضباً شاتماً، مثالٌ صغير على أي نقاش سياسي تنتجه الاختلافات الانتمائية في العائلة، والتي تتراوح نتائجها بين قمع الطرف الأضعف، غالباً ما يكون الولد، أو ينتج عنها في الحد الأدنى حساسيات مستمرة في العلاقة بين ذوي القربى، وفي الحدّ الأقصى قطيعة حياتية سببها الدائم عدم القدرة على تقبّل اختلاف خيارات الأقربين.
بروفسور علم النفس والمتخصص في مادة علم نفس الطفل والأسرة فرانكلين روسكي، شرح لنا عن تأثيرات «القمع الفكري والسياسي» الذي يمارس غالباً على الأفراد من «مراكز القوة في الأسرة»، ولا سيما القمع الذي يمارس على الأولاد، «في ظل ضعف سلطة العائلة الإعلامية على الطفل، فإن الطفل أصبح منذ مطلع القرن العشرين شيئاً فشيئاً أكثر ميلاً إلى التأثر بوسائل تربوية أخرى، كالجو الطاغي في المدرسة أو الجامعة أو الحيّ، ببيئته الاجتماعية (صداقات..)، أو بقنوات تلفزيونية أو صحف مفضلة، من هنا يتمايز كثيرون من الأولاد باتخاذ خيارات مختلفة عن خيارات الأهل السياسية أو الفكرية، وينحاز معظمهم إلى انتماءات سياسية أو بالأصح إلى آراء صارمة في مواضيع محددة، والإيديولوجيات بمعظمها جامدة، من هنا ينشأ الصدام وعامل الصدمة»، يتابع روسكي: «حين يكتشف الأهل آراء ابنهم المختلفة، فهم أمام خيارين، إما تقبّله، أو رفضه». الخيار الأول نادر إذا تحدثنا عن المجتمع اللبناني، لارتباط الخيار السياسي بمصالح الغيتوات الطائفية والمناطقية أو بسلطة «حكومات الظل» (الأحزاب النافذة)، تتحرك هنا التأثيرات الموجودة في لاوعي المواطن العربي القابع تحت ثقافة قمع يومية خارج المنزل، فيكون قرار الأهل برفض رأي الابن المختلف وقمعه، أو الرد عليه بقسوة أو بـ«إذلال»، ما يدفع الابن إما إلى التمسك بانتمائه والتمرد على الأهل، أو الخضوع لأوامر القوة المركزية في الأسرة الشرقية (الأب غالباً) بما في الخيارين من انعكاسات سلبية سواء على تماسك الأسرة ومستقبلها، أو على شخصية الابن واستقراره العاطفي والعقلي.



المعالج النفساني فيليب كوبل يشرح عن هذه النقطة بالذات، «قمع الابن ورفض السماح له بالحصول على استقلالية سياسية عن «قبيلته»، سبب كاف للإحباط، الانطواء على الذات والانعزال، وتمهيد لاكتئاب أو صدمة نفسية، القمع هو بذرة لما يسمّى «سلطة الخوف» التي تتحكم في العلاقة بين الوالد والولد، كما أنه مثير مهم لما يسمى «الكذب الادّعائي»، و«الكذب التمردي»، الأول هو ظاهرة اعتناق الولد لما لا يقتنع به، وادّعاء ما ليس هو، والثاني هو الكذب الهادف إلى استفزاز الآخرين، أو الانتقام لخسارة معينة، وفي هذه الحالة، خسارة قناعة فكرية وسياسية ما، كما أن القمع الفكري يظهر جلياً في مراحل عمرية أكثر تقدماً، على مستوى ضعف الشخصية والتردد والشعور بالنقص وعدم القدرة على تحديد الموقف والمجاهرة بالرأي، وثانياً، تتجلى آثار القمع الفكري الممارس ضد الابن في ظهور نتيجة تراكمية تظهر في تعامل الأخير مع أبنائه هو لاحقاً».
ما الحل إذاً؟ روسكي يجزم بأن الحل الأمثل للحفاظ على الصحة النفسية والاجتماعية داخل الأسرة الواحدة، هو في ثقافة الحوار وتقبّل الاختلاف وفي درجة أعلى، إدخال إعادة تكوين لمعالم السياسة والفصل بينها وبين التفاصيل الحياتية الأخرى كالطائفة والمنطقة والوراثة، كما أن التغيير يبدأ من تدعيم البرامج التربوية التي تحفظ حق الولد في اختيار الآراء التي يقتنع بها، وتعيد تعريف صلاحيات أطراف الأسرة، ما يجعل الكل واعين لحقوقهم وواجباتهم، ومنها حق الاختلاف، وواجب قبول التنوع واحترام خيارات الآخرين».
بنية الأسرة اللبنانية إذاً، ليست بمنأى عن التأثر بالأزمات السياسية المتلاحقة في الوطن، وكانت ضحيةً في حالات كثيرة للتطرف المرير في الخصومات السياسية التي انعكست بنتائج على العلاقات الفردية في المجتمع، حتى في البيت الواحد، علاقة تحكمها المعايير الشرقية لسلطة الأهل و«خبرتهم» في الحياة، في عالم يسرع إلى تبنّي المنطق البوشي «من ليس معنا فهو علينا» في كل أشكال العلاقات السياسية، كالعلاقة بين الولد وأهله، الذين لم يقتنعوا بعد بما تركه لهم جبران خليل جبران «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة».
أخيراً، يجدر التذكير بأن عدداً كبيراً من الثوار في العالم كانوا يخالفون آراء أهاليهم السياسية وانتماءاتهم. ولا يصعب أن يقع المرء على مقاومين ومناضلين من دول مختلفة، خرجوا من عباءات آبائهم، وأعادوا النظر في ما تعلموه صغاراً، منحازين إلى جانب الفقراء والمظلومين والمُعتدى عليهم من جانب الشركات العالمية أو حكومات الدول الكبرى.


لا تزال القرى الشمالية الحدودية تتناقل حكاية ابن خالف رأي أبيه خلال ثورة 1958، انحاز إلى المشروع القومي العربي. هذا ما لم يتقبّله الأب المتسلّط فأطلق الرصاصة على الابن الذي قبع في المستشفى لشهور طويلة. لا بد من الإشارة إلى أن فترة الستينيات والسبعينيات شهدت افتراقاً بين الأهل والأبناء الذين اختاروا الانتماء إلى أحزاب ثورية