طراد حمادة *استندت المذاهب الفلسفية التي نظرت إلى التاريخ، كساحة للفعل الإنساني، خاضعة لقوانين الحوادث والوقائع التي، ما إن تحصل، حتى تصبح من الماضي، وهذا الماضي عندها، لا يعود ولا يتكرّر، وبالتالي لا يمكن مراقبته وطرح الفرضيات بشأنه ثم إخضاعه إلى التجربة من جديد. فما حدث قد حدث، وصلتنا به نوع من الذاكرة في مفهومها عند المدرسة المادية التي تجد فيها استعادة للأحداث والوقائع في مدار الإدراك الحسي، لا علاقة لها بالحاضر ولا بالروح ولا بالخيال... وهي تماماً كشريط المسجل الذي حفرت فيه أثلام الأصوات، ويعمد الحاكي إلى استعادتها على حقيقتها من جديد.
لا شك في أن هذه النظرية تعرضت للنقد من جانب الذين ينظرون إلى التاريخ كعلم، والذين يذهبون إلى روحانية الذاكرة، وإلى ارتباط استرجاع الذكريات من الماضي بأحداث الحاضر، وإلى اعتبار الخيال الخلاق مقدرة متجددة على إنتاج الصور القديمة موشاة بثوب جديد، هو في الواقع رداء الحاضر وعلامة شديدة النورانية تضيء بدورها المستقبل.
استعدت هذه المقولات في معرض النظر والتدبر بشأن أمرين:
الأول: المعنى الذي يحمله التاريخ القدساني، أو ما يطلق عليه بميتافيزيقا التاريخ.
الثاني: التدبر في مقولة «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء». ولعل الأمرين المشار إليهما، مستفادان من طبيعة الأحداث التي يعيشها العالم في بداية الألفية الثالثة، والعالم الإسلامي منه على وجه الخصوص، وهي أحداث لا يمكن دراستها بمنهج الميتافيزيقي، إلا بارتباطها بالسنن الإلهية التي تمثل واقعة الطفّ، واحدة من أبرز محطاتها في مسيرة الأنبياء، والدروس الإلهية التي أراد الله أن يكون في حدوثها، عبرة للإنسان في مسيرته التاريخية، والتي تمثل مقاومة الظلم والاستبداد والدعوة إلى الإصلاح وطريق الأنبياء مثالاً واقعياً، تستعيده الذاكرة الإنسانية، ليكون دعامة من دعائم الروح، ومنطلقاً للخيال الخلاق القادر على إنشاء الصور، وذلك عندما تترقّى النفس الإنسانية، وتبلغ هذه المرحلة من الرقي بتحولها إلى عقل مستفاد متّحد بملاك الوحي النبوي، وفق طريقة العرفاء في تفسير السلوك الإنساني.
«كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء»، مقولة إلهية يستضيء بها العقل في حاضره، ويبني على مشارق أنوارها مستقبله المضيء.
تنقّل مفهوم الميتافيزيقا بين علم المبادئ والعلل الأولى، إلى معرفة الله والنفس، إلى مجموع المعارف التي تتجاوز نطاق التجربة ثم المعرفة المتحصلة بين اللاهوت والعلم الوضعي، تحاول الكشف عن حقيقة الأشياء، وأصلها، ومصيرها، أو المعرفة المطلقة التي نحصل عليها بالحدس المباشر.
لكن ما نقصده في عبارة «ميتافيزيقا عاشوراء»، يأخذ من مجموع المعاني المشار إليها، ويتكون من خلاصة المفهوم منظوراً إليه داخل العلاقة، حيث يصبح لكل شيء ميتافيزيقاه.
إنّ ميتافيزيقا عاشوراء، هي معنى الميتافيزيقا منظوراً إليه في العلاقة مع واقعة الطفّ... وباختصار، إنها مجموع المبادئ والعلل الأولى، والحكمة الإلهية المستفادة من طريق النفس والمعرفة الحضورية والحصولية، «بما فيها معرفة النفس الناطقة بعقلها المستفاد، وبالعقل القدسي الذي يتحصل للأنبياء والأولياء، وقد توافرت جميعها للإمام الحسين، ومثّلت النظرية الكونية والخلفية العقائدية والقاعدة الأيديولوجية لثورته المباركة على سلطة الطاغية يزيد بن معاوية. وكانت قاعدة مشروعة في إصلاح الأمة وحفظ الإسلام والقرآن، وتقديم سبل الاستمرار للرسالة المحمدية والقيام بالوظيفة الإلهية للولاية والإمامة... لذلك، قيل «بدأ الإسلام محمدياً واستمر حسينياً»، ولعلّ هذا القول مستفاد من حديث مشهور للرسول «حسين مني وأنا من حسين»، إلى جانب تعبيره عن العلاقة الإلهية بين دائرة النبوة ودائرة الولاية.
الأمر الثاني الذي تلزم الإشارة إليه في إيضاح المصطلحات المستخدمة في هذا المبحث، هو تعبير «التاريخ القدساني» الذي يجمع بين معنى المقدس وما وراء التاريخ، أو ميتافيزيقا التاريخ، أي التعالي على التجربة التاريخية كسجل للوقائع والأحداث.
إن علاقة التاريخ بالفكر، كانت محور المدارس التاريخية، من المثالية كما هي الحال عند فيلسوف المثالية هيغل، وكذلك الفلسفات المادية كما عند ماركس وإنغلز، وقبلهما أوغست كونت، وعبد الرحمن بن خلدون من قبل هذه الأسماء على تعدد مدارسها وأسماء أصحابها. ومختصر الرأي في علاقة التاريخ بالفكر، أو إنتاج العقل الإنساني، تقوم بين اعتباره حاضنة مؤسسة، أو صورة تعكس ظواهرية العقل، أو ساحة تستقل بشروطها عن هذه الظاهريات.
لقد استقام النظر في هذه المدارس في مباحث الشهيد محمد باقر الصدر عن العلاقة بين التاريخ والعقل، وقبله العلاقة بين الرسول والرسالة والمرسل إليه. وعليه، إذا كان التاريخ القدساني لا يمكن فهمه على ضوء التحليل التاريخي الوضعي، فإنّ أحداث التاريخ لا يمكن إدراك معناها من دون النظر إليها من خلال ميتافيزيقاه. وهكذا تصبح عاشوراء سنّة تاريخية مفسرة لأحداث التاريخ نفسه، وعليه سنقرأ أحداث الألفية الثالثة من خلال ميتافيزيقاها
الإلهية.
«كل ما لدينا من بركات عاشوراء». يربط هذا القول للإمام الخميني الميتافيزيقا بالوجود كحقيقة عينية متحققة في الساحة التاريخية، وهذا النوع من الوجود يشبه ما كان هيغل قد طوره في فلسفته المثالية وفي ديالكتيكه، لكنه يتجاوزه إلى ما هو أبعد من مفهومه ومعناه الوجودي، ويتجاوز منطقه الديالكتيكي نفسه، حيث الوجود ليس صورة أو فكراً أو تعقلاً أو مطابقة بين الروح والمصداق التاريخي، بل هو حقيقة عينية واقعية له خاصية الجعل والتشخص المؤمنة بأصالة الواقع الخارجي، والدور الإلهي في حركة هذا الواقع وسننه التاريخية.
ولعل هذا المفهوم لفعل ميتافيزيقا الوجود، هو مناط السفر الرابع من أسفار العرفاء الذين يسلكون من الحق إلى الحق كما يتجلى في الخلق، بعدما تحققوا في الأسفار الثلاثة السابقة.
وهكذا، فإن مقولة «كل ما لدينا هو من بركة عاشوراء»، تعني أن التاريخ الراهن منظور إليه بعين الفعل الإلهي، عين السفر من الحق إلى الحق في تجلياته في الخلق، وهي هنا عين الثورة الحسينية المباركة ومفاهيمها، وذلك يعني أنه بالإمكان قراءة الأحداث المعاصرة على ضوء المفاهيم السياسية والروحية لهذه الثورة.
كيف سنطبق ما نقوله على أحداث الألفية الثالثة؟ من المفيد في البداية أن نشير إلى أن هذه الأحداث لا تزال في بداياتها، وأن متعلقاتها ترتبط بالتطورات التي حصلت نهاية القرن الماضي، وأنه في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وتحديداً عام 1978، تحقق حلم كبير للبشرية في قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، كواحدة من التجارب التاريخية ذات الاتجاه المتطابق مع مفهوم الثورة الحسينية والإصلاح الحسيني.
وقد حقّقت هذه الثورة نتائجها في أرض الواقع، لأنّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض برغم ما تعرضت له من عدوان وحصار ليس مقام ذكره الآن، لكن يحسن التنبيه إلى استمرار أشكاله وأدواره بأفعال ومواجهات مختلفة ومتعددة.
كما يجدر التذكير بأن التطورات الدولية التي تلاحقت بسرعة كبيرة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، دفعت البشرية إلى أتون مواجهة جديدة تقوم على قاعدة انتصار قوة واحدة في هذا العالم، هي الليبرالية الأميركية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والفكرية، وأنّ هذه القوة تتصرف وفق هذه المقولة وتروّج لها، كما فعلت من قبل حركة التاريخ الإسلامي، قوى من النوع الذي واجهه الإمام الحسين، الذي كانت عاشوراء تجلياته المثلى ورمزه، وميتافيزيقاه التي نعود إليها لقراءة ما يحدث في عالمنا الراهن.
* وزير سابق