سعد الله مزرعاني *تبدأ اليوم، وبعد حفل الافتتاح في الأمس، أعمال المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي اللبناني. إنه فصل جديد في محاولة قديمة لبناء مشروع للتغيير في بلد وبنية أقيما من جانب المؤسسين والورثة، على عملية دمج كاملة ما بين نظام لبنان الطائفي، ووجود لبنان نفسه! استمر هذا الدمج رغم تغير توازنات الداخل والخارج، ليفضي إلى جعل عملية التغيير أصعب. ساعد في ذلك تساقط بعض القوى التي رفعت شعار التغيير سابقاً، وقبولها العمل في كنف القوى التقليدية، بذريعة أن المتاح فقط، هو تحسين توازنات النظام السياسي اللبناني، لا تغيير النظام نفسه. والمؤتمر هو أيضاً، تمرين جديد في محاولة الحفاظ على استمرارية حزب شيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
وتتضاعف عوامل المجازفة، بل المغامرة، في المثابرة على المضي في المشروع، من خلال تحديات إضافية ناجمة عن صعوبات ونكسات أصابت المشاريع العربية التي رفعت، هي الأخرى، شعارات التحرر القومي والاجتماعي.
لم تقدم مواد المؤتمر العاشر، السياسية والتنظيمية، أجوبة مباشرة وعميقة على هذه المسائل. وفي حدود الزمن والإمكانات المتاحَين، قُدّمت صياغات مشبعة بالآني من المواقف والتوجهات السياسية والإرهاصات البرنامجية...
ولهذه الصياغات صلة وثيقة بما عاشه لبنان وعاشته المنطقة، خلال السنوات الخمس المنصرمة. إلا أنه لم يذهب في التحليل والتقصي والتقييم والاستنتاج إلى المدى الذي يؤسس لمشروع وطني وقومي تحرري متكامل في أبعاده الفكرية والسياسية والاجتماعية. ستكون تلك هي المهمة الكبرى لما بعد المؤتمر. ونجاحها مرهون بإرادة عمل واع في هذا الاتجاه لدى القيادة الجديدة وباستنفار الطاقات المتاحة وانخراطها في هذه المهمة. وهذه الطاقات موجودة في صفوف أعضاء الحزب أو في خارج هذه الصفوف: لدى شيوعيين ويساريين مختصين ومهتمين. وفي المشروع الموعود، كما كان الأمر دائماً، وكما سيكون في المستقبل، حلقتان: حلقة حزبية، وحلقة جبهوية تتجسد في تيار واسع يحمل مشروع التغيير إلى أوسع مدى سياسي وجماهيري، طلباً للفعالية والتأثير والمنافسة والحكم والسلطة!
وتعنينا هنا، الحلقة الحزبية، بمناسبة انعقاد المؤتمر العاشر. تطالعنا في هذا الصدد مجموعة من الأسئلة والإشكاليات، وحتى الإشكالات:
ــــ السؤال الأول المتصل بالإطار الحزبي نفسه، وما يجب أن يطرأ عليه من تجديد وفقاً للمتغيرات والتحولات والخصوصيات ارتباطاً بما يمليه مشروع التغيير نفسه من جهة، وما قادت إليه التجربة الممتدة، من جهة أخرى. وأستطيع أن أفترض نظرياً، هنا، أن تناولاً صحيحاًَ وعميقاً لكل من الإطار الحزبي والإطار الجبهوي، يستطيع من منطلق التكامل والتداخل والتفاعل، إزالة الكثير من المعوقات والصعوبات.
إن الإطارين يندرجان (وفق تمرحل مشروع التغيير في محطات تاريخية متلاحقة ومترابطة ومتعاظمة الجذرية باتجاه الهدف الاشتراكي)، في سياق تاريخي واحد. ولذلك، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. وهنا تصبح وظيفة الإطار الحزبي شديدة الأهمية: في المبادرة والمتابعة والرعاية والتسهيل والتشجيع. هذا يفترض أن يكون الإطار الحزبي (رغم ضرورة تضمنه الحدّ الكافي من التماسك الفكري والسياسي والتنظيمي)، إطاراً ديموقراطياً هو الآخر. ولقد لفتت بعض النقاشات التحضيرية في المؤتمر العاشر، إلى تضخم السلبيات في الواقع التنظيمي الراهن للحزب الشيوعي. وأخطر ما في ذلك الواقع، انغلاق الإطار الحزبي على نفسه، وتوتر البيئة الحزبية، والافتقار إلى الآليات الحزبية الضامنة لسلامة النشاط والعلاقات وفعاليتهما وحتى عمليات الانتخابات نفسها التي هي مكسب ديموقراطي تجب صيانته وتطويره من خلال صيغ تضمن صحة العملية الانتخابية، في حدودها الضرورية. وتتضمن هذه الآليات وضع البرامج وتحديد المهمات، كما تتضمن صيغ المتابعة والرعاية والرقابة وتشجيع الكفاءات، وخصوصاً في صفوف الشابات والشباب. بسبب هذه السلبيات، تعطل النمو في الحزب، وهُدرت طاقات عديدة واستشرت أشكال من التفرد والتعسف يغذيهما، لدى البعض، نزوع نحو المركزية الشديدة وغير الديموقراطية، بالضرورة.
إنّ بعض أمراض المجتمع، قد نُقلت بشكل شبه كامل إلى البيئة الحزبية التي ما لبثت أن نقلتها بدورها، إلى المنظمات الجماهيرية. ولقد ترك ذلك، ولا يزال، أكبر الضرر على قدرة الحزب، على أن يمثّل نموذجاً جاذباً ومحتضناً وراعياً للطاقات الفكرية والكفاحية والجديدة.
لا بد من آليات ديموقراطية بديلة: في التمثيل وفي آلية القرار وفي المراقبة. إن ذلك هو ضمانة عدم تفشي الكتل وتفاقمها إلى ما يشرذم الحزب ويبدد طاقاته في الصراعات والنزاعات الداخلية. وهو، بالمقابل، ضمانة تأمين أوسع مشاركة ضرورية وفعالية ممكنة.
إن المؤتمر مطالب (وهذا أمر مطروح بهذا القدر أو ذاك في النقاشات التحضيرية) بإيجاد صيغة لتمثيل الجيل الشاب وبشكل مضمون وفعال. وكذلك على المؤتمر إقرار الانفتاح العملي ووفق صيغ مناسبة، على التمثيل النسبي في الهيئات الواسعة خصوصاً: تمثيل الحساسيات والمناطق وتمثيل القطاعات وتمثيل الشباب والنساء. وهذا الأمر ذو صلة وثيقة بمشروع التغيير نفسه، وخصوصاً في مرحلة الديموقراطية أي مرحلة البديل الديموقراطي للنظام الطائفي (الحكم الوطني الديموقراطي). وكذلك هذا الأمر ذو صلة وثيقة أيضاً بالحزب نفسه، الحزب الثوري، الذي سيكون التنوع ضمن الوحدة الضرورية والكافية، إحدى مميزاته، بل ميزاته الأساسية.
لقد عمل الحزب الشيوعي في بيئة صعبة، وصمد مستقلاً أمام التحديات الناجمة عنها أو الوافدة من محيط إقليمي لا يقل صعوبة هو الآخر. والصمود هنا كان ولا يزال يعني التمسك بالتغيير والإيمان بإمكان إجرائه وإيجاد الآليات الكفيلة ببناء مشروعه استناداً إلى تعبئة القوى صاحبة المصلحة في ذلك، وهي الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني. يفاخر الشيوعيون بالكثير مما حفل به تاريخهم من مساهمات وإنجازات، وخصوصاً في حقل المقاومة ونشر الفكر الاشتراكي والوعي الاجتماعي والنقابي، وفي حقول الإعلام والتربية والشباب ومؤسسات العمل الاجتماعي والمدني... كما أنهم، في فترات سابقة، قدموا مراجعة جريئة عن بعض ممارساتهم وتاريخهم الذي شابته سياسات وتوجهات وعلاقات خاطئة، وخصوصاً في مجال التعسف والتفرد.ولا ينبغي أبداً أن ينسى شيوعيو اليوم، أنّ كبير شهدائهم فرج الله، قد اتهم واضطهد وأذل من المتسلّطين في الحزب نفسه، بما كان أقسى عليه وعلى أمثاله من فعل المجرمين الذين أذابوا جسده بالأسيد!
يحتاج الحزب الشيوعي إلى كل أعضائه: من كان منهم داخل التنظيم ومن كان خارجه. ويحتاج إلى آلية مشاركة فعلية تساعد أيضاً في وقف النزف وفي حسن استقبال الوافدين، وخصوصاً من الشباب (الذين مرت تجربتهم في الحزب في امتداد العقدين الماضيين) بمعاناة خطيرة. ويحتاج الحزب أيضاً إلى أن يتحول إلى مؤسسة تستكمل فيها عناصر الديموقراطية وبناها.
ويحتاج ذلك بدوره، إلى رفع مستوى الوعي والسعي نحو المعرفة وامتلاك القدرة على صياغة الموقف والاستنتاج بعد تحليل وتمحص. وهذا يحتاج إلى سياسات وبرامج وبنى مكرسة له في ميادين الثقافة والإعلام بكل فروعه، وصولاً إلى الصيغ التقليدية في ما كان يسمى بالتثقيف.
يعمل أعضاء الحزب الشيوعي في منطقة تتعرض للغزو والاحتلال؛ وعليهم أن يكونوا سبّاقين، وعلى الأقل مشاركين، في مقاومة الغزاة والمحتلين والطامعين. ويعملون في بيئة تتحكم فيها أشكال متنوعة من العصبيات والفئويات التي يغذيها مستفيدون يحاولون عبرها تأمين هيمنة لهم على الحياة السياسية. وهذا أمر يجب فضحه باستمرار وكشف أهداف ومصالح القوى المستفيدة منه. وللشيوعيين حلفاء طبيعيون في معارك الدفاع عن الأمة والوطن كما لهم شركاء في مشروع التغيير. وما بين هذين، يجب أن تنطلق ورشتهم الوطنية والقومية التحررية في عمل منظم وفعال في هذه المرحلة التاريخية والمصيرية من حياة بلدهم وأمتهم.
المؤتمر العاشر بهذا المعنى، أمام تحديات كبيرة، فهل يكون بحجم الآمال!
* كاتب وسياسي لبناني