خضر سلامةتعود الانطلاقة القوية للفيزياء النووية إلى ما وراء الحرب العالمية الثانية، مستفيدة من الأبحاث التي شهدتها حقبة الثلاثينيات، بفضل باحثين كبار على وزن انريكو فيرمي ونيلز بوهر وجون ويلر، طوّروا الفيزياء النووية طويلاً لخدمة الأبحاث العسكرية وأبحاث الطاقة.. وأدّوا المهمة المرتجاة منهم. أعوام الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حملت نجاحات باهرة في حقل الأستروفيزيك النووية، التي استطاعت وضع شرح للبيغ بانج، وحلّ شيفرات المجموعة الشمسية المعقدة، مروراً بقمة التقدم في أبحاث الفيزياء المختصة بنواة الذرة، عام 1975، في الجزء الثاني من عمل آج بوهر وبن موتلسون البحثي، وصولاً إلى اكتشاف عام 1980 لجديد النواة في بعض النظائر: شبه نواة جانبية.
عام 1980، نجح فريق من الفيزيائيين النوويين من جامعة بيركلي في اكتشاف نظائر لنواة الذرة التقليدية، خفيفة الوزن، غنية بالنيترونات، ولا تتصرف كما يتوقع لها، فبينما تتجمع نيكلويونات النواة عادة لتشكل ما يمكن تسميته السائل النووي المشحون، ذات الكثافة العالية، أظهرت بعض نظائر الليثيوم والهيليوم والبيريليوم امتلاكها «هالة» من النيترونات المعزولة تدور بمسافة مهمة بعيداً عن النواة المركزية تبعاً لقوانين الميكانيكية الموجية (mecanique ondulatoire).
ورغم أن الوصف التقديري لدور الموجات يأخذ في الحسبان بنية هذه الهالات، فإن وجودها يجب أن يراعي القوة المتبادلة بين العناصر الدقيقة الأصغر في الذرة، الغليون والكوارك، المسؤولة عن الاتصال بين البروتونات والنيترونات في النواة.
لذا، فإن هذه النيترونات الـ«شاردة»، الموجودة خارج المنطقة التقليدية التي تمارس فيها القوة النووية الجاذبة، لا يجب نظرياً أن تكون متصلة بالنواة.. ورغم ذلك، فهي متصلة! وهذا ما أثار حشرية العلماء.
واليوم، نجح فريق فيزيائي ألماني، للمرة الأولى، في قياس الحجم الدقيق لمثل هذه النواة «الاصطناعية» المشكّلة خارج النواة الطبيعية التقليدية، باستعمال تقنية اللايزر، في قفزة مهمة، تشير مجدداً إلى المساحة الواسعة المفتوحة أمام تطور علم الفيزياء النووية.
كان من الصعب حتى الأمس، تحديد الحجم الحقيقي لهالة النيترونات التي تدور حول نواة اصطناعية لنظائر من الهيليوم والليثيوم، وأصعب في ما خص البيريليوم، هذه المعضلة ليست مفاجئة إذا ما عرفنا أن مثل هذه النظائر نادرة، وصعب إنتاجها إلا بكميات ضئيلة، وبميكانيكيات معقّدة، عبر اصطدام بروتونات بهدف ثابت، تماماً كعمل CERN العتيد الذي يهدف إلى خلق انفجار كوني نموذج للانفجار الشهير الذي أطلق الكون.
ولكن وليفريد نوترشاوسر ورفاقه في الطاقم الفيزيائي من معهد الكيمياء النووية في جامعة غوتنبرغ بماينز في ألمانيا، استطاعوا أن يستعملوا طريقة ملتوية للوصول إلى هذه الهدف، قياس الهالة النيترونية، عبر الاستفادة من تأثير البنية النووية على مستويات طاقة الإلكترونات داخل الطبقات المحيطة بالنواة، باستعمال تقنية اللايزر المقوى، (spectroscopie laser) المطوّر خصيصاً من أجل أبحاث الفيزياء الذرية والجزيئية، استطاع الفريق قياس طاقات التناقل الإلكتروني لطبقات معينة رفيعة، موجودة بين النظائر والنواة المدروسة.
إحدى النظائر التي حدد حجم نواتها الهالة النيترونية، كانت البيرليوم 11، وقد حدد بـ 7 فنتومتر (الفنتومتر الواحد يساوي 10 بقوة -15) وحجم نواته لا يتجاوز الـ 2.5 فنتومتر.
وتكمن أهمية هذه الاختبارات في أنها سوف تسمح لنا بتحسين فهمنا للقوة النووية، والأهم، كما في حالة الهليوم 8 مثلاً، الانفصال الإشعاعي لبروتونين اثنين، وأيضاً، إثبات أن الفيزياء النووية قطاع بحثي علمي واسع، ما زال ينتظر الكثير من التقدم.