سعادة غامرة ويأسٌ قاتل، ثقة مطلقة بالنفس وحيرة دائمة. الحبّ هو هذا وذاك، لا بل أكثر... هذه العاطفة التي نعتقد أنّها أعظم «فتوحات» حريّتنا، تحدّدها مكتسبات طفولتنا الأولى، وتسير أيامنا كجرح نرجسيّ من جهة، وكعامل توازن أوّلي من جهة أخرى
سناء الخوري
استيقظت نورا بعد منتصف الليل على صوت هدى، شريكتها في السكن، تصرخ «كذّاااب». كانت تتحدّث مع أحدهم على الهاتف بطريقة هستيريّة. باغتت نوبة الغيرة غفوتها الهانئة، ونهضت لتشهد «استجواباً» عاطفياً طويلاً عريضاً. «رأيتُ قارورة عطر جديدة في السيارة. من هي الـ(...) التي أهدتك إياها؟ أين التقيت بها؟ في أية ساعة تركت مكتبك؟ واعدتها بعدما أوصلتني، أليس كذلك؟ أحلى منّي يعني؟». وبين كلّ سؤال وسؤال «اسكت يا كذّاب... ما تجاوب يا خاين»، ثمّ... «بحبك»، وتقفل الهاتف على شتيمة من العيار الثقيل. ثمّ دموع غزيرة، وتفجّع على باب البرّاد. لم يكن ينقص ضوء المطبخ الخافت إلا الموسيقى المناسبة لتكتمل سينمائيّة المشهد. تمتمت نورا هازئةً من تلك الفتاة «المجنونة، البائسة»: «شو هالحبّ!».
لحظة السؤال مشروع... ما الحبّ؟ ما هي تلك العاطفة التي تدفع إنساناً، يبدو «طبيعياً» في يومياته العاديّة، إلى تصرفات تصنّف بغير المتزنة عرفاً؟ وكيف يختار المرء حبيبه؟
يأخذ الحب قالباً علميّاً أكثر رصانة بكثير من المشاعر المركّبة التي تجتاح العشّاق على حين غرّة. تفسّر المعالجة النفسية سهى بيطار أنّ «نفس الإنسان المطلقة تكون، بحسب نظريّة عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ، لا جنس لها، وعندما تأخذ قالب أنثى (أنيما) أو قالب ذكر (أنيموس) بعد الولادة، تدخل في حالة نقصٍ وجوديّة بحثاً عن شطرها الآخر الذي يكمّلها». الحب يعني إذاً حالة الوحدة الكاملة التي لا يمكن للنفس البشريّة أن تستقرّ من دونها. «عندما أحب، أفضّل الآخر على نفسي. إذا قلت له كلمة تؤذيه، أعتب على نفسي وألومها، كأنني أحمل ذنباً لا يغتفر». هذا هو معنى الحب بالنسبة إلى ميرا، ولكنّها تستطرد «شرط أن يكون من أحبه يستحق ذلك».



شروط الأهليّة هذه تختلف من شخصٍ إلى آخر، وتفسّر بيطار ذلك بأنّ «نمط العلاقة بالشريك تحدّده السنوات الثلاث الأولى من طفولة الإنسان. في تلك المرحلة المبكرة، يكتسب الطفل، انطلاقاً من نوع العاطفة التي تجمع والديه ومن طريقة إظهارهما لحبّهما تجاهه، نمطاً عاطفيّاً محدّداً. لهذا السبب نرى أشخاصاً يحبّون بسرعة، بينما لا يصل آخرون إلى ذلك الشعور إلا بصعوبة بالغة». وتؤكد بيطار أنّ الإنسان كائن ينمو بالاكتساب، «فمواصفات الشريك، والتفاصيل الصغيرة التي نبحث عنها في علاقاتنا العاطفيّة، هي إسقاطات لنمط العلاقة التي كانت تجمع أهلنا في طفولتنا المبكرة، فإما أن نحاول في لاوعينا استنساخها أو نبحث عن أمثلة أخرى متمرّدة على تلك الصورة». ومثلما تختلف شروط الحبّ تختلف أيضاً تجلياته، ويستمتع علي في وصف عوارض حبّه. «الحب جنون. أشعر دائماً بأنني متفائل أكثر من اللزوم. أشعر بأن صباحاتي هانئة. أنام وعلى وجهي ابتسامة، من دون أن أعرف سبباً مباشراً لسعادتي هذه. الحب يغيّرني، ويعطيني العزيمة لكي أبني مستقبلي». أمّا لين فتشتاق إلى حبيبها حتّى «لو كان هو الذي أوصلني إلى المنزل، ولم يمضِ على افتراقنا إلا بضع دقائق. عندما نختلف، أبحث عن أيّة حجّة حتى أكلّمه. أتكلم عنه طوال الوقت، وأحلم به. وجهه هو أوّل ما أراه حين أفتح عينيّي صباحاً». أمّا زينب فتعتقد أنّ «الحبّ عطاء ووفاء واحترام و...» وتقطع مطوّلتها لتضيف أنّه «عندما ينتهي الحبّ، بمُوت، بطقّ، وأبكي طوال النهار والليل».
يكمن بيت القصيد في سيرة الحبّ كلها ـــــ بالنسبة إلى كثيرين ـــــ في العذابات التي لا تنتهي، والغيرة والشوق والرغبة الجارفة. ويصنّف علماء النفس المعاناة العاطفيّة على هذا الصعيد بإحدى أقسى التجارب النفسيّة، وتفسّرها بيطار «بما يسمّى الجرح النرجسي، ويكون أكثر إيلاماً كلما كان تردداً لحرمان قديم، تكرّس في اللاوعي منذ مرحلة الطفولة». ويتحوّل هذا الجرح إلى ما يشبه الجلد، «إذا ما ارتكز على صعوبات عاطفيّة قديمة ومتراكمة. ولهذا تتدرّج حدّة ردود الفعل بعد الفراق بين فرد وآخر، فهناك من يتخطّى الأمر بسهولة ومن يعاني كثيراً للخروج من الدوّامة». الخشية من هذا الجرح النرجسي، يدفع بالبعض إلى رفض الحبّ كردة فعل دفاعيّة عن النفس، بحيث «تكون نفسيّتهم هشّة أمام تلك الحالة»، بحسب بيطار.
قليلون هم الذين يخشون من الحبّ بالمطلق، فهو العاملُُ الأوّلي للتوازن في حياة كلّ إنسان. «حين أحبّ يغذّي هذا الشعور روحي، ومهما كان غزيراً أبقى بحاجة إلى أكثر»، تقول سارة. محمد بدوره يؤكّد أنّ «الحب هو العمود الفقري لحياته المهنيّة، فعندما أرتاح عاطفياً أنجح في كلّ شيء آخر». أمّا عطيّة فترى «الحب عبادة» وتقرأ رسالة من خطيبها على هاتفها الخلوي «المسلم يذهب إلى الجامع، والمسيحي يذهب إلى الكنيسة، وأنا أذهب إليك»، وتبتسم ابتسامة الفخورة.
وبالفعل، يقول فرانشسكو ألبيروني في كتابه المرجعي «صدمة الحب» إنّ «الوقوع في الحبّ يشبه في اندفاعته الحركات الجماعيّة الكبرى كالفتوحات الدينيّة والثورات الشعبيّة والعقائديّة» بحيث يرى العاشق حبيبه بعين المؤمن الذي يتبع قائداً دينياً، أو بعين الثائر المستعدّ للموت من أجل فكرة. من جهتها، تؤكّد بيطار أنّ «حياة الإنسان مستحيلة من دون حبّ»، وتضيف أنّ «الحبّ هو العاطفة الوحيدة الكاملة والحقيقيّة في وجدان الإنسان. أمّا المشاعر الأخرى من حزنٍ وكره، فهي ليست إلا حباً مشوّهاً».


يفصل علم النفس بين عاطفة الحب والعلاقة بين شريكين. وتقول بيطار إنّ عاطفة الحبّ متقلّبة كباقي مشاعر الإنسان، ولكنّ العلاقة تحوّل الشريك إلى «الآخر المشابه» فتذوب شخصيتا العاشقين كل في الآخر. عندها يشعر كلّ طرف في عقله الباطني بأنّ وجوده الأنانيّ مهدّد، ولذلك يأتي دور العلاقة المتوازنة لتخطّي هذا المأزق.