من الدولة الحاضنة إلى الدولة ــ الشركة ــ المؤسّسة
مهى زراقط
قبل خمسة أعوام، خلص الباحث الفرنسي بيير ميسو، بعد دراسته لظاهرة رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني، إلى أنّ الأخير يفتتح نوعاً جديداً من العمل السياسي، قوامه الدمج بين إدارة الشركات ومهارة استخدام وسائل الاتصال. اقترح ميسو آنذاك، في كتابه «برلوسكوني: الأمير الجديد»، مصطلحاً جديداً لهذا النوع من العمل السياسي هو: commangement. هذا المصطلح، الذي يدمج كلمتي communication وmanagement، هو حصيلة تطوير لنطريات أنطونيو غرامشي المتعلقة بالسلطة وآليات إنتاجها. وقد طوّر ميسو في هذا الإطار، مصطلح الأمركة كما عرّفه غرامشي، إلى «الهَلوَدة» (من هوليوود) ليتوصل من خلاله إلى مفاتيح تتيح فهم نجاح برلوسكوني في اقتحام السياسة ورؤيته إليها.
لكن، مع الفوز المثير للجدل للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية قبل عامين، ها هو ميسو يقترح مصطلحاً آخر، هو «الساركوبرلوسكونية»، عنوان كتابه الأخير le SarkoBerlusconisme الذي يبرهن فيه ما سبق وتبنّاه، من اقتحام شخصيات تتوافر فيها شروط الـ«كوم ـــــ ماناجمنت»، عالم السياسة.
ميسو، الأستاذ الجامعي في علوم الإعلام والاتصال (جامعة «رين» الثانية)، يرفض دراسة ظاهرتي سيلفيو برلوسكوني ونيكولا ساركوزي السياسيتيّن، من خلال اللجوء إلى تفسيرات من خارج علم السياسة، وإن استخدمتا آليات خارجة عليه. هو يجد في التحليلات التي تقول إن امتلاك الأوّل معظم وسائل الإعلام في إيطاليا، والثاني صداقات مع مديري معظم وسائل الإعلام الفرنسية، سبباً للنجاح، نوعاً من التبسيط.
برأيه، هذا التحليل لا يقدّم أي معلومة، ولا ينجح إلا في «شيطنة» الظاهرة واعتبار وسائل الإعلام مجرد أدوات للتضليل.
كما يرفض ميسو القول إن سبب النجاح هو الشعبوية، ولا يحبّذ الاكتفاء بالدراسات المتعلّقة بسيكولوجيا السلطة لفهم هذا النجاح. الأمر أكثر تعقيداً برأيه، ويحتاج إلى تفكيك الظاهرة، والعودة إلى الدراسات الكلاسيكية في العلم السياسي، حيث الرجل السياسي هو من يستطيع أن يمثل رمزاً (الله، الوطن، الجمهورية) وأن يكون قادراً على «إخراج» هذا التمثيل، أي على مسرحته.
صحيح أن هذا ما كان عليه الأمر دائماًً، إلا أن الجديد اليوم، هو أن الرمز هذه المرة ليس الدولة الكلاسيكية وإنما الدولة ـــــ المؤسسة أو الدولة ـــــ الشركة. والسياسي هو مديرها أو ربّ عملها. ينطبق هذا التوصيف كثيراً على برلوسكوني، القادم من عالم الأعمال إلى العمل السياسي.
كذلك ينطبق على ساركوزي. فصحيح أن الأخير انخرط شاباً في العمل الحزبي وتدرّج في مناصبه، إلا أنه ينادي بأهمية اللجوء إلى قيم الشركة في إدارة الدولة. أما ما يجمع الرجلين، فهو الرغبة في تحويل الدولة الحاضنة (Etat- providence) إلى دولة ليبرالية (Etat- libéral) من خلال إعادة النظر في الأطر التنظيمية لمؤسسات الدولة وجعلها أكثر قابلية لشروط السوق... من دون التخلي عن القيم الكاثوليكية! (ألم يقل برلوسكوني لساركوزي: عندما أسمعك أشعر بأنك تقرأ في كتابي؟).
يجد ميسو في سقوط جدار برلين، في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، محطة فاصلة سهّلت ولادة هذا النوع من الممارسة السياسية في إيطاليا، بعدما تحوّل «الشيوعيون الدكتاتوريون» إلى «دون كيشوتيين» يقاتلون «الساركوبرلوسكونيين».
أما في فرنسا، فإن «الرخاوة» التي ميّزت النظام بعد أحداث أيار 1968، هي التي جرّت عليها المآسي الأمنية. هذا ما يفسّر كون خطاب الرجلين يقوم على معادلتين: الحلم (برلوسكوني)، والخوف (ساركوزي)، اللذين سيستبدلان المشروع السياسي. كلّ من الرجلين سيحمل التغيير إلى بلده، وهو قادر على ذلك بدليل قدرته على النجاح وحده.
هذه القراءة تجعل الممارسة السياسية للرجلين قائمة على التموضع في موقع «الضدّ»، وهو ما يتيح للسياسي «الساركوبرلوسكوني»، وضع نفسه دائماً محوراً لأي نقاش، بحيث يصطفّ السياسيون بين اثنين: مع ساركوزي أو ضده. مع برلوسكوني أو ضده. وقد وقع معارضو الرجلين في هذا الفخ، مساعدين على جعل كلّ من الرجلين، كشخص، مادة للسجال. وهكذا تتغير ممارسة السياسة، لتصبح صناعة لفيلم أميركي قوامه بطل وعدوّ. عندها لا بد من نسج السيرة الذاتية لهذا البطل، التي تشكل العامل الأبرز في بناء الشخصية «الساركوبرلوسكونية» وتعزيز نجاحها.
يمكن بوضوح ملاحظة اطلاع الشعبين، الإيطالي والفرنسي، على قصة رئيسيهما، الرجلين العصاميين، ورحلة نجاحهما الفردية القائمة على الحلم (الأميركي طبعاً)، والقدرة على تحقيقه.
وهو، «الساركوبرلوسكوني»، إذ يضطلع للقيام بهذا الدور، فليس رغبة منه في تحقيق مكاسب، وإنما للقيام بواجب وطني وخدمة عامة تتحوّل منّة منه على شعبه. لكن لا بأس، فالبطل الساركوبرلوسكوني، هو أيضاً مشروع مسيح جديد مستعد للتضحية في سبيل حلم التغيير.
إلا أنّ «الساركوبرلوسكونية» لا تقتصر فقط على هذا الحجم من الضوء المسلّط عليها، وهي لا تجد معناها فقط في اعتمادها الشركة والنجاح رمزاً مضاداً للدولة، وإنما لأنها تطرح نفسها «مهذِّبة» للرأسمالية. برلوسكوني يريدها «روحانية»، وساركوزي «أخلاقية». مشكلة هذا التحدي أنه يريد أن يقيم علاقة بين اللذة، المال، الترف، وغيرها من القيم المرتبطة بالنجاح الفردي وتحقيق الحلم الأميركي من جهة، وبين الأخلاقيات الكاثوليكية المسيطرة في كلّ من فرنسا وإيطاليا من جهة ثانية. فكيف يكون ذلك؟ وحده الاحتفاء بالعمل، كقيمة، يمكنه أن يحقق هذا الأمر، ألم يقل بولس الرسول: «من لا يريد أن يعمل، عليه أن لا يأكل». «الساركوبرلوسكوني» هو إذاً العامل العنيد الذي لا يتوقف خطابه السياسي عن الاحتفاء بقيم العمل.
باختصار، هذه الظاهرة برأي ميسو، هي شكل جديد من السياسة في أوروبا الكاثوليكية لاحقة لسقوط جدار برلين، وذات توجه نيوليبرالي محافظ. وتحمل «الساركوبرلوسكوني» إضافات جديدة إلى النيوليبرالية، من حيث كونه نموذجاً لأمركة «لاتينية» ليّنة وقادرة على التأقلم مع الحقائق الوطنية.
بتعريف آخر، هو شكل جديد من السياسة: نيوليبرالي أورو ـــــ متوسطي، نموذجه بونابارتي، يمزج بين سلطة الدولة، احترام الكثلكة ومرجعية المؤسسة. أي أنه يجمع كلّ الرموز التي تتيح له سد ثغرة أزمة التمثيل السياسي، مستخدماً آليات الإدارة الجديدة للمؤسسات، والتلفزيون الجديد.
* من أسرة الأخبار


العنوان الأصلي
Le Sarko
Berlusconisme

الكاتب
Pierre Musso

الناشر
L’aube