رشعين ـ فريد بو فرنسيس يحجب ضجيج حجارة طاحونة «رأس العين» صوت خرير المياه الهادرة في مجرى نهر رشعين المجاور. فالطاحونة الأثرية المعروفة من أهالي المنطقة والجوار باسم «طاحونة النشمي». شيدت منذ أكثر من قرنين، في مجرى هوائي قوي، وتحت جدول مياه أكبر نهر في منطقة زغرتا الزاوية، نهر رشعين. في القديم، كانت الحركة في الطاحونة لا تهدأ طيلة العام. أما اليوم، فلم يعد يأتي إليها إلا قلة من كبار السنّ الذين رفضوا طعم البرغل والطحين المنتج في المعامل وبقوا أوفياء لعاداتهم «الغذائية الصحية». ما زال هؤلاء يأتون إلى الطاحونة، يغربلون القمح على سطحها، ومن ثمّ يهرسونه تحت حجارتها، ويصبح للبرغل والطحين المضروس في «طاحونة النشمي» طعم آخر.
تقول سعاد النشمي التي تتابع أعمال الطاحونة منذ وفاة والدها أنّ ملكية الطاحونة تعود إلى الرهبنة المارونية، في دير مار أنطونيوس قزحيا، وقد استأجرها والدها عام 1948 وأدار شؤونها، فأخذت اسم العائلة. الطاحونة بالنسبة لسعاد، لم تعد مجرد مبنى، بل أضحت جزءاً لا يتجزّأ من حياتها اليومية، فهي تحمل أجمل ذكرياتها ـــــ إن لم نقل كلها ـــــ من هذا البناء. تشرح صاحبة الطاحونة الأثريّة أنّ لبناء الطواحين معايير واضحة، إذ يجب أن تقام بالقرب من الأنهر وفي ممر هوائي. «فالمياه الجارية هي قوة الدفع لحجارة المطحنة الثقيلة، والمجرى الهوائي يساعد في تنقية البرغل المطحون من الريش العالق فيه».
الطاحونة «الكهلة» التي ظهرت عليها علامات الإهمال، ما زالت تؤدي عملها في جرش القمح وتحويله إلى برغل جاف أو إلى طحين للخبز ، بالرغم من قدم عدّة الشغل فيها وتآكلها.
وقد بناها الراهب اللبناني مارون البعبداتي عام 1805، وقد نسجت الكثير من الأساطير عن طريقة تشييدها. ففي كتاب الأب يوسف الخوري «تاريخ أديار معاملة الجبة» يقول الكاتب «إنّ قسماً من البناء تهدّم بعد إنجازه بقليل، ولم يثبت كلياً إلا بعدما وضع الراهب البعبداتي ذخيرة الصليب المقدس داخل الجدران، فثبت البناء». وانطلاقاً من هذه الرواية، تعتبر الطاحونة وكل منتجاتها مباركةً بالنسبة لأهالي المنطقة.
تتألف الطاحونة من طبقة واحدة تعلوها غرفة خاصة كان الراهب البعبداتي يستعملها لأغراضه الشخصية. مع الأسف أدّت عملية «ترميم» هذه الغرفة على الطراز الحديث، إلى تشويه جمال المطحنة القديمة، إذ أدخل إلى البناء الإسمنت ومشتقاته التي لا تتلاءم مع الحجر القديم. ولكن، إذا ما أزيلت هذه الغرفة، عادت الطاحونة إلى ما كانت عليه منذ أكثر من مئة سنة. «فالكور والطرطق والصليبي والحلقوم والحنجرة والجرس والحجر لا تزال في مكانها» كما تؤكد سعاد النشمي. تلك الأسماء التي قد تبدو غريبة حينما تعددها سعاد، هي من الأدوات الضرورية لعمل أي طاحونة قديمة كانت أم حديثة. وتأمل سعاد التي بقيت محافظة على تلك الطاحونة الأثرية أن يعاد ترميمها للمحافظة على البناء من عوامل الزمن، وخصوصاً أنّ أجزاءً واسعة من دعائمها مهددة بالانهيار بفعل تآكلها من المياه الجارية بمحاذاتها، والتشقق الحاصل في معظم أقسامها. ولكنّ ذلك لا يخفف من جمال مبنى الطاحونة الخارجي، إذ تحيط به أشجار الليمون من كل جوانبه وتظلّله شجرة ضخمة من شجر الدلب الذي ينمو عادة قرب الأنهر.
وكشف الأب طوني طحان، رئيس دير قزحيا، عن مشروع ترميم ضخم للطاحونة، يُدرس بالتعاون مع قائمقام زغرتا، إيمان الرافعي، وسيموّله الاتحاد الأوروبي. سينطلق هذا المشروع قريباً جداً بعدما تمّ تحضير حدائق يقصدها الجميع. ويؤكد طحان على نوعيّة «العمل الدقيق من أجل المحافظة على شكل الطاحونة التراثي ونوعية الحجر المستعمل، والحرص على ألّا تدخل فيه أي مادة تفقده جماله التراثي القديم»، مضيفاً «أن عمل الطاحونة في جرش البرغل وطحن القمح سيستمرّ طبيعياً ولن يتوقف أبداً».