يونس محمود الشريففي سلّة آذار حمل إلينا المبدع باقات الورود... في السلة كان الزنبق وزهر اللوتس وكان الياسمين. وروداً متنوّعةً كانت تحمل إلينا سلة آذار، وصوراً عديدة تُرسم على هيكلها الخارجي، وكانت تشعّ من بين الزهور والورود وعيدان الياسمين ألوان وتفسيرات مبهمة، أو أنها أقوى من مقدرتنا على الفهم والإدراك.
إنها الهدية التي قُدّمت إلينا منذ آلاف السنين وتقدّم إلينا في كل فصل من فصول الحياة.
هدية المبدع إلى شعوبنا المريضة، تحمل في داخلها الأغذية والخبز وعصير المحبة، وتنقل إلينا الدواء والمنظّف الأنفع لغسل الصدور وتنظيفها وإزالة الصدأ والعفن والجمود عن عقولنا المخمورة بنبيذ الجهل وتقاليد العصور الغابرة.
في الصيف تورق أشجار الحور والصفصاف، وفي الشتاء تخضرّ أشجار التوت وتثمر، وسنابل القمح تتجاوب مع نشاط الفلاح وعطاء السماء والأرض في فصل العطاء، وفي الربيع ترسل أرتال العصافير تراتيلها مع «أوركسترا» الطبيعة، فتصدح وتغني وتفرح، وحتى الأشواك تخضرّ عندما يخصّها المبدع بسحر الطبيعة وسر العطاء... أو أن نبقى عائمين على سطح الماء من دون التفكير في الغوص إلى الأعماق، ودون أن ندري أن في الأعماق الكنوز والجواهر والأشياء الجميلة.
في شهر آذار كان عيد المرأة العالمي وعيد المرأة هو صفحة مشرقة في تاريخنا المعاصر، يمثل التفتّح والانطلاق، وهو حركة تفاعل مع الحياة والحضارة والبناء والتخلص من القيود وحجز الفكر وتحنيط الإرادة. يمثل أيضاً عيد المرأة العالمي اليقظة والحرية المسؤولة والتحرّك لتحرر ذاتها من سجون الجهل والانطلاق من ثم للمشاركة في بناء الحياة. فالمرأة أخذٌ وعطاء وتفاعل وقوة وإرادة وطموح، فلمَ لا ندعها تنطلق بروحها وفكرها وإرادتها ونترك المجال لها للتخلص من رواسب الماضي ومسح الجمود والخوف عن جبينها، وتباشر بناء نفسها وتكوين الحضارة والتخلص من عنت الرجل وسيطرة التقاليد وكسر القيود التي عانتها آلاف السنين؟ فمجتمعاتنا لا تنتصر على آفة الجهل فيها ولا تحصل على بطاقة المرور إلى العالم المتحضّر إلا إذا حصلت المرأة على حقوقها كاملة ـــــ حرية الرأي والفكر والتصرّف ـــــ ولن يُبنى المجتمع وتتفتّح ورود الحياة وزنابقها بالسواعد المفتولة وحسب بل في فتح المجال أمام مسيرة الإرادة الفكرية المشتركة والعقلية المدركة، والمشاركة الفعلية في إطلاق أسراب الحمام.
فعيد المرأة هو إعادة حسابات لمعنى وجودها وهو تقويم لتأكيد هذا الوجود في الحياة، فإما أن تشارك في صنع الحضارة أو أن تبقى تُقدَّم هدية إلى الأسياد والأنهار والوحوش الكاسرة، أو توأد وهي حيّة لمسح «العار» أو طمس قضية.
في هذا الشهر كان العالم في عرس مزدوج. أعياد الحرية والثورة والطهارة والجمال والعطاء. وإن كان عيد المرأة يرمز إلى الحرية والبناء، فإن المعلّم إنما هو ثورة ضد التخلف والجمود، فالمعلّم يقدّم إلينا لوحة تفسيرية لمعاني الوجود وكشف أسرار الحياة، ويجدّد في أجيالنا الثقة والإيمان وتحمّل المسؤولية، ويساعد على بناء الأجيال وتوعيتها على أسس المحبة والمعرفة والمساواة، وهو المصباح الذي يكشح الظلام أمام عقول طلبتنا، ويمثل الدفع الخيّر بالإنسان إلى الأمام. أما الطفولة عندما نحتفل بعيدها، فإنما نحتفل ببزوغ فجر الإنسان النقي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. والطفولة عفوية وبراءة وعالم من الجمال والمحبة والطهارة والحرية الساذجة... فحبّذا لو أن العالم، كلّ العالم، يرجع إلى أطفال صغار لنشرب الرحيق الجديد ونكون عالماً عجينته واحدة وحقيقته واحدة وأهدافه واحدة.
والأم الحبيبة، أنشودة هذا العالم العذبة وربيعه الدائم، فصول حياة الأمم ومعنى وجودها، المعلمة المخلصة الأولى التي علّمتنا كيف نفهم الحياة وكيف نملك المقدرة على تفسير الطبيعة والعيش بانسجام مع حقيقة الوجود، فهي الربيع بزهوره ووروده، والطبيعة بجمالها وانفرادها ونزاهتها والشعوب بانفتاحها وإدراكها للحياة المتزايد، وهي البحر باتساعه وامتداده والسماء بانفتاحها وصفائها، والمجتمعات بتكوينها وتقدمها وحضارتها والإنسانية بأبعادها والأجيال بنشأتها وتفتّحها وتعليمها.
ماذا عساي أقول في عيد الأم، وقصة طفولتي معها وشبابي. فمن خلال أمي اكتشفت سر الوجود، ومعنى البقاء وتذوّقتُ طعم الحياة واطّلعت على كنوز المعرفة. ومن بسماتها ودموعها وحنانها وإيمانها صرت عالماً بالحب والخيال والواقع وأصبحت عيناً ترى الجمال. كلما انفردتُ بلحظاتي الهادئة وانطلقت في تفكيري وخيالي إلى أطراف الدنيا وتمعنتُ في عمق أسرار الوجود أكثر وأكثر عرفت معنى عيد الأم أكثر وأكثر، وكلما رأيت صور الجمال وتنشّقت نسيم الحرية شعرت بوجود الأم.. وكلما كتبت حرفاً وقرأتُ كلمة أو كتاباً أو فيلسوفاً أو حكيماً أو رجلاً عظيماً أو بطلاً شجاعاً ذكرت الأم. ففي الوقت الذي ننتصر فيه على أنانيتنا وجمودنا وتحجّر عقليتنا ومحدودية التفكير فينا، نعطي المرأة والطفولة والطبيعة والأمومة معناها وحقها وقدسيتها. وفي الوقت الذي تزاول فيه المرأة في مجتمعاتنا حقها في الحرية وتقرير المصير دون ضغط أو إرهاب، ودون القيام بعملية غسل الأدمغة، عند ذلك يصحّ لنا أن نعيّد، وعند ذلك نفهم أن العيد هو إعادة تقويم وتجدّد دائم ومسيرة تطور.