نهلة الشهاليسأل أبو سعاد «المجتمع الدولي» كما يقول، عن السبب الذي يحمل الإسرائيليين على قتل بناته وزوجته وأمه. لا يبكي، لا يصرخ ولا يتفجع، بل لا يبدو مذهولاً. يحكي القصة كما لو كانت عادية. يكرر فقط أنه يريد أن يفهم. وينظر حوله في الخراب التام. «هذا بناء كان من خمس طبقات، فكيف اختفت؟». يخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية، ويفردها، فتظهر صورة ابنته الثالثة. هي راقدة في مستشفى في بلجيكا. يقول إنّ BBC أحضرتها له، ويقصد بالطبع صحافيين يعملون في القناة البريطانية. أحضروا الصورة وقالوا له إنها مشلولة إلى الأبد، الطلقات أصابت ظهرها. هي في الرابعة، بينما توفيت تلك التي كانت في السابعة والأخرى التي في الثانية. حمل هو وإخوته والجيران، الفتيات الثلاث وأمه وزوجته، ومشوا بهنّ كيلومترين تحت القصف حتى صادفوا سيارة نقلتهم إلى المستشفى. هناك قالوا «ما زال في الصغيرة نَفَس». يتناول ابنه الصغير، الجالس بقربه على أنقاض المنزل، الورقة، ويعيد طيّها بعناية فائقة ثم يعطيها للأب. أبو سعاد مزارع، يشدد على أنه «مسالم»، ولا ينتمي لأي تنظيم، وأنه خرج من المنزل الواقع قرب الشريط بناءً على أوامر من جنود كانوا في الدبابة على بعد بضع عشرات من الأمتار. رآهم ورأوه. وأطلقوا النار على بينة ممن كانوا يصيبون. هو يريد فحسب أن يجيبه أحد على «لماذا».
في اليوم السابق، سجلت الكاميرا جلسة ليلية مع شباب حضروا إلى فندق فلسطين على شاطئ غزة، حيث حل السينمائي وصحبه. تكلموا عن أحلامهم. كانت الكهرباء منقطعة كالعادة والشموع تأبى الاشتعال، أو تنطفئ كل بضع دقائق بسبب التيار الهوائي القوي، فقد تحطمت النوافذ نتيجة القصف. بحثوا عما يمكنه أن يقي الشعلة، واكتفوا بأيديهم تحيط بها. يريدون أن يكونوا كسائر الشباب في العالم. يصحح واحد منهم، «ليس كما في أوروبا». لا يريد طلب الكثير! بل أن يتمكن من الدراسة والعمل وتأسيس أسرة، وألا يعيش في سجن دائم، وفي خوف دائم، وخصوصاً بصحبة ذلك الشعور بأن لا أفق لغير ذلك.
في اليوم الأول لوصول الفريق، اليوم الأول لإعلان وقف إطلاق النار، تلقّفتهم سيدة كانت تمرّ من أمامهم. رأت الكاميرا، وظنت على الأرجح أنهم صحافيون. شدها أولاد يتضاحكون، متقافزين أمام الكاميرا، محاولين إبعادها، تشاقياً. ولكنها استمرت في الكلام قائلة إنهم لن يرحلوا عن هذه الأرض، وأنهم قرروا ذلك، وعلى الإسرائيليين أن يعرفوا أنهم مهما فعلوا، فلن... كانت حازمة صارمة بلا أدنى اهتزاز، بينما تحيط بها هي الأخرى معالم خراب تام. قالت إنه لم يبقَ لديهم ما يخسرونه. هي حتماً لا تعرف من قال ذلك قبلها، داعياً العمال لكسر قيودهم!
تلك كانت أجزاء من شريط وثائقي، بدأ تسجيله في اللحظة الأولى لإعلان وقف النار. أربعون ساعة تصوير في غزة على امتداد شهر. دخل السينمائي سمير عبد الله وزميله خير الدين مبروك ضمن وفد من «البعثات المدنية إلى فلسطين» يضم أطباء وسياسيين فرنسيين، ثم بقوا هناك. أطلقوا على الشريط اسم Gaza-strophe. وهو يعني في الآن نفسه المقاطع الشعرية، ويتلاعب على كلمة «كارثة» (catastrophe) مبدّلاً الجزء الأوّل منها باسم غزّة من دون المساس عملياً باللفظ. والشريط كما يُعرض على الموقع الذي يحمل الاسم نفسه، مكوّن من مقاطع، يستمر الواحد منها بضع دقائق. يدور المقطع حول إيقاع/ موضوع واحد. هو شعر فعلاً من فرط قربه من أحاسيس الناس الذين يلتقط كلامهم وحركة وجوههم وأيديهم. وهو شعر لقدرته الفائقة على نقل المعنى. يقول جاك فاث، مسؤول العلاقات الدولية في الحزب الشيوعي الفرنسي الذي شارك في تلك البعثة، إن المرء لا يخرج من غزة كما كان قبل دخولها. ولا يخرج المرء من مشاهدة تلك المقاطع كما كان قبلها. مهما كان يعرف. فهي تقيم تماساً روحياً مع الناس البسطاء الذين سُحقت حياتهم أثناء العدوان، والمدركين بقوة، وعلى أية حال، لشروط حياتهم تلك قبل العدوان وأثناءه وبعده. أناس ليسوا بوارد الاستسلام أبداً، ولكنهم ليسوا «أبطالاً» كاريكاتوريين. هناك الألم والرجاء، الحزن الساحق والنكتة الدائمة، الرغبة في الفهم والإصرار على التواصل: هؤلاء حقيقيون إلى حد يبطل تماماً ما تحاول إسرائيل فعله عبر مجمل سلوكها، وهو تحويلهم إلى وضعية «السعي للاستمرار على قيد الحياة»، فحسب. وتلك وضعية ما دون البشر، مما ينزع عنهم رويداً صفتهم الإنسانية ويحوّلهم إلى أعداد صمّاء، معطيات مجردة، فتسهل إزالتها. إنها تقنيات الإبادة الحديثة، حيث تختلط القنبلة بالدعاية المحوّرة لرواية ما يجري، وبصورة نمطية عن آخر مبهم، مجرد ومختلف. فيقول الشريط إنهم أنت وأنا وهو...