نهلة الشهالبعضهم في المنطقة لا يصدّق أنّ الأميركيّين سينسحبون من العراق. تلك خاصية البلادة الطاغية على العقل السياسي. قبلها لم يصدقوا أنهم سيحتلون العراق! وهكذا يلهثون وراء الأحداث مقتصرين على ممارسة ردود الفعل على حيثياتها.
يصحّ الأمر على العراق كما على سواه. ويصح على المراقبين والمحلّلين، مما يجعلنا قليلاً ما نقع على نص مشوّق تمثّل قراءته فارقاً. ولكنّه يصحّ أيضاً على المعنيين المباشرين، المفترض أنهم الفاعلون في الحدث: ما هي الرؤيا الاستراتيجية للسلطة الفلسطينية مثلاً، أو لحماس، عدا تمسّك الأولى بموقف «الدولتين» المفوت، الذي تجاوزه الواقع تماماً، وتمسُّك الثانية بـ«مبادئ»، علماً أن بينها وبين الاستراتيجية مسافة لا يمكن أن تبقى فارغة. هذا بخصوص حالة حادة كفلسطين. ولكنه أيضاً وضع الأنظمة «المستقرة» (لذا هي لم تعد مستقرة، وباتت مفتقدة شرعية من أي نوع). فما هي الرؤيا الاستراتيجية للنظام المصري على سبيل المثال، حيث لا يمثّل الجهد الوحيد المتمثّل في الحفاظ على مقاليد السلطة نظرية للدولة. كان لدى عبد الناصر مثل تلك النظرية، تبلورت رويداً وبالتجربة، ولكن منطلقاتها كانت قائمة منذ اللحظة الأولى. كان لدى السادات تصوّر متكامل هو الآخر، عن الذات وعن الهدف. أما الآن؟ ويصح الأمر على معظم الدول العربية، إن لم يكن جميعها، بدليل الفارق بالنسبة إلى تونس مثلاً بين البورقيبية وحكم بن علي، والفارق بين بن بله وبومدين، ثم بينهما وبين سلطة «مجرد إدارة الوقت» في الجزائر. ويصح على سوريا التي أوصلت الممارسة السياسية ــ الاقتصادية الأشبه بالـ«باتشورك» إلى القمة... فلنعد إلى العراق، حيث ما بين الاحتلال والانسحاب، تعرضت بلاد الرافدين إلى فظاعات تتجاوز الخيال، وانتُهك نسيج مجتمعها بقوة، ولكل ذلك آثار عظيمة. والمسألة العصية اليوم ليست المراهنة على تواريخ الانسحاب وآلياته، بل الانصراف إلى تفحص ما يتعين على العراقيين القيام به ليتولوا بلادهم في ظل هذا التغيير الوشيك... مما يولّد، بدوره، دينامية تجعل الانسحاب أمراً لا مفر منه!
للانسحاب الذي أعلن الرئيس أوباما خطته أسباب عديدة، بعضها مرتبط بمعطيات عالمية وأميركية: طبعة بوش الابن وجماعته لتحقيق الهيمنة الأميركية على العالم كانت تحتوي على قدر كبير من الرعونة الأقرب إلى عقلية المافيا منها إلى عقلية الدولة، وهي جنونية بمعنى أنها غير ممكنة، والأهم أنها غير ضرورية، حيث يمكن تحقيق الأغراض نفسها بوسائل أخرى. وقد أثبت التمرين العراقي أنه مكلف جداً، وأن الكلفة تحسب باليوم (تذكّروا كيف كان بوش وطاقمه يتكلمون عن عقود مقبلة من استمرار احتلال العراق، وبعضهم يتسلى بتواريخ من نوع 2050). الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم الرأسمالي بنيوية لا عرضية، وهي تفرض تغييراً في تعيين الأولويات والممكنات، وخصوصاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة... إلى آخر تلك الأسباب. لكن الأهم، هو أن احتلال العراق تبدّى عن استحالة. فرغم العدد الهائل للقوات الأميركية، رسمية ومرتزقة، والطاقة التكنولوجية والنارية الفائقة، والبطش المتفلّت من كل قيد، واستغلال تناقضات مجتمع منهك بفعل عقود من الديكتاتورية والحروب، لم تحكم واشنطن قبضتها على العراق. لم تتمكن. وكانت كلما رقّعتها من مكان تمزّقت من مكان آخر. وأبدى المجتمع العراقي، رغم كل الأعطاب التي يعانيها، ورغم هول ما وقع عليه، قدرة على المقاومة بأشكال شتى، وعلى إفراز لحظات من المناعة: حين حدث تضامن عام، متجاوز للانقسامات الطائفية، مع الفلوجة، حين انخرط الشيعة في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، حين رفض التكوين الاجتماعي العراقي ظاهرة القاعدة، حين برزت ثوابت وطنية أساسية: ضد تقسيم البلد، ومع البحث الدؤوب عن توافقات ممكنة... وفي نهاية المطاف، بات الوجود الأميركي في شوارع المدن والقرى العراقية عبئاً نافلاً بلا وظيفة.
لواشنطن مصالح اقتصادية وسياسية في العراق، وهي تريد تأمينها، وستسعى إلى ذلك بقوة. وسييسّر الانسحاب «الطوعي» هذه المهمة. ولعلها أوّل عناوين ما ينبغي أن يجري اليوم تعيينه: ما هو الحد المرفوض تماماً في هذا المجال؟ ثم، أي نظام اقتصادي يسعى العراق إلى بنائه، كيف يجري ترميم قدرات البلد، كيف يجري التخلص من نظام النهب والفساد الذي أقامه الاحتلال؟ أي نظام اجتماعي يلائم العراق؟ ما شكل الحريات السياسية والفكرية والثقافية التي يمكن التوافق على ضمانها؟ وكيف يجري تداول السلطة؟ كيف تجري إعادة تعريف الحالة الكردية لتلافي جنوحها نحو انقسام، وإن كان مستحيلاً هو الآخر، ولكنه مولّد للاضطراب، وربما لما هو أعظم...
لن يتبلور كل ذلك عرضاً، والإجابات ليست بديهية، كما ليست إجماعية بالطبع. ولكنه الصراع المقبل في العراق.