تتلاشى صورة فلسطين في مخيلة تلامذة الأونروا شيئاً فشيئاً، فتاريخها وجغرافيتها لا يُدرَّسان لهم، لأنهما غير مطلوبين في الامتحانات الرسمية. وإن اكتفت الأونروا بتدريس مناهج الدول المضيفة للاجئين، فإنّ هذه المناهج بالكاد تلامس قضيتهم، ما يطرح أسئلة عن قدرتها على تعريف اللاجئين بفلسطينهم، وترغيبهم بالعودة إليهاراجانا حمية
هل رسبت «الأونروا» في دروس فلسطين؟ سبب التساؤل أن بعد 61 عاماً، وهو عمر النكبة، يكاد الجيل الثالث من أبناء فلسطين لا يعرف عنها شيئاً. أما ما وجد في المناهج التي يدرسها هؤلاء في لبنان، فضئيل جداً مقارنة بما يجب أن يعرفوه كلاجئين من بلد محتل ينتظرون أن يعودوا إليه.
وإن كانت الأونروا تلتزم تعليم اللاجئين في مناهج الدول المضيفة، حسب ما تنص الاتفاقيات، فإن التساؤل ضروري عن واجب هذه المنظمة في إيجاد حلول للمشكلة تتناسب مع حق هؤلاء في معرفة تاريخهم. وما يزيد الوضع سوءاً في مدارس الأونروا في لبنان، أن وطن تلامذتها اختُزل بدرس يتيم في كتاب تاريخ الصفين التاسع الأساسي والثانوي الأخير. كذلك لا تتعدى معلومات الدرس التعريف بالحركة الصهيونية وأساليبها. وأنها احتلت فلسطين، إضافة إلى نبذة عن الحروب العربية الإسرائيلية.
ورقتان يتيمتان تختزلان وطناً. وهما، على ضآلتها، غير مطلوبتين للامتحانات الرسمية، والسبب، أن الأونروا «ليست حرة بالتصرف كما تشاء، فهي تلتزم بما تفرضه وزارة التربية اللبنانية، لكونها تتبع المنهاج اللبناني بموجب اتفاقيات تبرمها مع البلد المضيف»، كما أجابت مديرية التعليم في المنظمة إلكترونياً على أسئلة لـ«الأخبار». لكن، هذا «الالتزام» دونه بعض الاستثناءات، إذ يستطيع «مركز التطوير التربوي في الوكالة إصدار مواد إضافية عن فلسطين وتوزيعها على المدارس والأساتذة». غير أن ما تضيفه الأونروا حين تجتهد، يؤدي فلسطينياً إلى الاستياء. فعندما عمدت، هذا العام، إلى استعادة تجربة تاريخ فلسطين وجغرافيتها كما كانت تدرس قبل عام 1982، استعادت نسخة من دليل «تاريخ وجغرافية فلسطين» تخلط بين فلسطين ما قبل الاحتلال وما يحصل اليوم في الكيان الإسرائيلي. «فما يزرع مثلاً اليوم هناك، لا يجب أن يدرس تحت باب الزراعة في فلسطين» .
لا تعرف الطالبة فايزة عائشة(11 عاماً) عن فلسطين إلا بعض التفاصيل السطحية التي يقولها أي طفل آخر عن أي مكان غريب. ففلسطين بالنسبة إليها «كانت بلاداً قديمة، فيها أشياء حلوة، دمروها الإسرائيلية وصارت مش حلوة». هذا ما أخبرها إياه جدها. أما في مدرسة الكابري حيث تدرس، فلم يعلموها شيئاً يتعدى ما ذكرته، «لأن إحنا بالصف الرابع ما بناخذ من هادا».
بلال معروف، أكبر من عائشة، أخذ بعض الدروس من «هادا» كان في الصف التاسع عندما درس في مادة التاريخ، لم يدرس فلسطين فيها، فالتاريخ الذي كان يتلقاه «هو تاريخ لبنان، أما القضية الفلسطينية فلم تكن مطلوبة في المقرر». وما يعرفه عن بلاده «موقعها مثلاً على خط الاستواء واش بحدّها، اخذناهم بالصف السابع والثامن».
باختصار، «ولا إشي علمونا عن فلسطين»، ينهي الطالب حسين الحاج حسن نقاشه مع زملائه الذين كنا نسألهم عن مادة التاريخ في «أريحا»، الثانوية التابعة للأونروا. هم يعرفون فقط أسماء بعض القرى، وعلى الأرجح لأنها أسماء مدارسهم. وما تعلموه لاحقاً تلقوه في مكتب الشبيبة التابع لأحد التنظيمات. هكذا، تُختزل فلسطين بتفاصيل أقل من أساسية، يعرف أكثر منها بالتأكيد أي متابع لنشرات الأخبار. فبماذا تفيد معرفة الطالب الفلسطيني لموقع فلسطين من خط الاستواء مثلاً؟ هي معلومة لا شك، لكن هل هي من نوع المعارف الضرورية ليدخل منها إلى معارف أوسع؟
في ظل هذا الغياب الفادح، يعوّل الفلسطينيون على رسم معالم الوطن المسلوب في أذهان أبنائهم على الدور الذي قد يؤديه المعلم الفلسطيني. غير أن هذا التعويض يعتمد على «التزام المدرس وانتمائه»، هذا ما يستنتجه الباحث في مجموعة «عائدون» أحمد مفلح. يتذكر مفلح أيام دراسته في السبعينيات «فقد كنا نحفظ الكثير عن فلسطين، إذ كانت الأونروا تترك للمدرس، بضغط من الفلسطينيين، حرية تدريس مواد عن قضيتهم وتاريخها». لكن السبعينيات ولّت، وبعض المدرسين «قد لا يقدرون الآن حتى على «إمرار» ما يريدون عن فلسطين، ربما خوفاً على وظائفهم»، لذا يلجأ الطفل إلى العائلة والمحيط. وقد تقوم بهذا الدور بعض الفصائل ومنظّمات الشبيبة في مناسبات كيوم الأرض. إلا أن «كل هذا لا يكفي». يقول مدير مدرسة حطين في عين الحلوة حسن زيدان. فللتربية المدرسية دور أيضاً، «غير أنها تذوب شيئاً فشيئاً في مدارسنا، بسبب عوامل كثيرة. والعامل الأبرز سياسة الأونروا التي تخاف إبراز العداء لإسرائيل، ففي النهاية هي جهاز من أجهزة الأمم المتحدة». لذا، يجد زيدان أن الأونروا وجدت مخرجاً دبلوماسياً «عندما التزمت مناهج الدولة المضيفة المشوهة أصلاً، وبهذا تكون الأونروا قد رفضت رسمياً اعتماد التاريخ الفلسطيني جزءاً من المنهاج»، مع العلم بأن مبادرة حصلت في السبعينيات حين وضعت مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتباً لثلاثة مراحل من الابتدائي إلى الثانوي، اعتمدها مدرسو الأونروا، لا الأونروا، ووزع على مدارس الدول المضيفة (المقاصد في لبنان التزمتها)، إلا أن هذه المناهج أصبحت بحاجة إلى تحديث وقلّ استخدامها.
ويذهب فلسطينيون إلى القول إن هذا الاستخفاف لم يكن ليحصل قبل انسحاب منظمة التحرير من لبنان عام 1982، وهو عام مفصلي بين ما كانت عليه القضية في المناهج التعليمية وما هي عليه الآن. وما أسهم في هذا «الانقلاب»، بحسب زيدان، هو «توجه منظمة التحرير بعد اتفاقات أوسلو الذي أعطى المبرر للأونروا لطمس التاريخ الفلسطيني». وأكثر من ذلك، يعلق الباحث أحمد مفلح بالقول: «انقسام الساحة الفلسطينية أسهم في قبول الأونروا بتدريس المنهاج اللبناني الذي بات الطالب الفلسطيني يشعر معه بالفصام ما بين قضيته وكتاب لا يمت إليه بصلة». ميوعة الموقف الفلسطيني دفعت الأونروا في مرحلة ما بعد أوسلو إلى الجرأة على إدخال وسائط تعليمية من «خرائط وكرات أرضية وأطلس تحمل اسم إسرائيل بدلاً من فلسطين المحتلة»، حسب زيدان.


قلّة من أبناء الشتات تعرف هذا الاسم: الأستاذ قسطنطين خمّار. فهم لم يروه، لكنهم بالتأكيد يتذكّرون صورته المطبوعة على غلاف كتاب «تاريخ وجغرافيا فلسطين» في مدارس الأونروا في لبنان. كان خمّار من أكثر المؤرّخين المهتمّين بتاريخ فلسطين، وقد كتب الكثير من الكتب عن هذا التاريخ في فترة السبعينيات، التي كانت تدرّس في جميع مدارس الأونروا. اليوم، لا يبدو أنّ أحداً من أبناء الجيل الجديد، وهو الثالث ما بعد النكبة يذكر من تاريخ خمّار شيئاً. لا أحد منهم يذكر صاحب أكبر موسوعة عن المواقع والأماكن في فلسطين، وهو عاش يوماً في مخيم اللجوء في برج البراجنة قبل أن يعود إلى مدينته عكا ليموت هناك.