عثمان تزغارت
أمين معلوف بلغ الستين. في رفقة الكتابة، أمضى نصف عمره تقريباً. كان في الرابعة والثلاثين حين نشر باكورته «الحروب الصليبية كما رآها العرب» بالفرنسيّة (1983). بعدها جاءت رواية «ليون الأفريقي» (1986) بالفرنسيّة أيضاً، لغة كتابته الأثيرة، لتسلّط أضواء الشهرة على هذا الكاتب اللبناني الذي بدأ صحافيّاً، واحتفظ من مهنته الأولى بحب البحث والتقصّي ودراسة الأرشيف. في ليون الأفريقي وضع واحدة من معادلاته الأساسيّة بين شرق وغرب وحوار حضارات، وجاءت «سمرقند» (1988) لتكمل الرحلة، وصولاً إلى «صخرة طانيوس» التي سجّلت عودة إلى أرض الجذور، وفاز على أثرها بجائزة «غونكور» عام 1993، ليتكرّس واحداً من أشهر الكُتّاب العرب في لغة موليير.
يعيش أمين معلوف معظم أيام السنة على جزيرته الصغيرة قبالة الشواطئ الفرنسيّة. Ile d>Yeu هي خلوته وصومعته، فيها يكتب ويتأمل العالم، من الرواية والفلسفة والمقالة... إلى الأوبرا في السنوات الأخيرة. الكتابة هي الابنة الرهيبة لعزلته الاختياريّة في إيل ديو. منها ترشح رغبة جامحة لدى الأديب ليذهب أبعد من دوره كحكواتي وقاص ومؤرخ ولغوي ماهر. هكذا، ينكبّ على روايات تؤسس، كما يردد دائماً، لتبادل ثقافي ندِّي بين الشرق والغرب، بعيداً عن الرؤى الاختزاليّة والأفكار الجاهزة.
التقيناه في معرض الكتاب الباريسي لمناسبة إطلاق كتابه الأخير «خلل العالم: حين تنضب حضارتنا» (منشورات غراسيه)، الصادر في خضم الأزمة المالية العالمية وسقوط ورقة التوت عن النظام الرأسمالي. وكان من الطبيعي أن نبدأ الكلام من هنا: «بدأتُ في كتابة هذا الكتاب قبل خمس سنوات. تركيزي كان ينصبّ على أزمة أوسع من الأزمة الحاليّة، سواء على الصعيد الأخلاقي والمعنوي، أو على الصعيد السياسي والاستراتيجي، أو على الصعيد البيئي والفكري، وبالطبع على الصعيد الاقتصادي. أعتقد أنّه آن الأوان لإعادة النظر في المنطق المهيمن على العالم، قبل أن يفضي الخلل الحالي إلى تفكّك الضمير الإنساني».
هكذا هو أمين معلوف، لا يكلُّ في مسعاه السيزيفي لبناء جسور التواصل والحوار والتسامح، غير عابئ برياح التطرف ونفير «صراع الحضارات». قد يفسِّر هذا اتسام قراءاته للتاريخ بالتفاؤل. في كتابه «الهويّات القاتلة» (1998) كان قد استبشر خيراً بمدّ العولمة، متوقعاً أن تؤسس لـ«ثقافة كوسمبوليتية» من شأنها أن تسهم في انتشار قيم الحرية والتآخي والتسامح.
عندما كتب ذلك، كان في مرحلة أصبح فيها سؤال انتماءاته المتعددة ملحّاً أكثر من أي وقت. ذلك السؤال رافقه منذ طفولته. الأديب الذي بدأ حياته صحافياً في جريدة «النهار»، عاش بكثير من الشغف متعة تعدُّد الهويات ـــــ إن صحَّ التعبير ـــــ في رحم عائلته. من أسرة والدته المارونيّة المقيمة في مصر، وجدّته لوالدته ابنة إسطنبول، إلى والده الصحافي المعروف رشيد معلوف، وجدّته لوالده ابنة القسّ البروتستانتي، في هذه البؤرة تكوّن وعيه للاختلاف.
غالباً ما يتذكّر معلوف منزل العائلة في رأس بيروت. كانت المنارة تبثّ أضواءها فوق الحقول البيروتية الشاسعة قبل أن يجتاحها الباطون، لتصل إلى غرفته. كان الصبي ينتظر ليلاً أشعة المنارة لتتبختر على حائطه، كأنّه في سينما دائمة. هناك، على جزيرته التائهة في المحيط الأطلسي، منارات كثيرة، لكنّ بيت رأس بيروت يبقى مسرح أحلامه. هناك، كان جيرانهم من أوائل العائلات الفلسطينيّة المهجّرة بعد النكبة، وهناك أيضاً عاش الحراك الاجتماعي والفكري والسياسي والثقافي الذي أعطى العاصمة طابعها الكوسموبوليتي. لاحقاً، انتقلت العائلة إلى منزل أكبر، حيث كان والده يستضيف كبار رجالات الحكم في الستينيات. حينها، كان أمين، ابن السابعة عشرة، يطالع ماركس ويستقبل ناشطين جنوب أفريقيين من «المؤتمر القومي الأفريقي». علاقته مع القارّة الأفريقيّة تكرّست لاحقاً حين ترك لبنان إلى غير رجعة، مع اندلاع الحرب الأهليّة، حاملاً زوجته وأبناءه إلى فرنسا. هناك، رأس تحرير أسبوعيّة Jeune Afrique، المعنيّة بشؤون القارّة السمراء، أواخر السبعينيات. لم يترك الجريدة إلا ذات يوم قرر فيه الكتابة عن سقوط غرناطة فاعتزل الصحافة... عاش مع العائلة على بعض المدخرات، وأمضى أشهراً طويلة يكتب. هكذا أبصر النور «ليون الأفريقي». منذ ذلك الحين، راح معلوف يخوض في غمار التاريخ، مسكوناً بسؤال الهويّة الذي لم يفارقه، كأنه الغريب الدائم. الأديب الذي ترجمت أعماله إلى أكثر من 38 لغة يصرّ على وضع قارئه، الغربي والعربي، أمام صورة أخرى للتاريخ المتوسطي المشترك، تغاير جذرياً الصيغ الرسمية التي كُتبت وفقاً لأهواء المنتصرين في كل مرحلة: «أشعر بأنني في مسعاي كمن يبحث عن تلك المحطات المضيئة التي تساعدنا على التطلّع إلى المستقبل. أدرك جيداً أنني لو قمت بالمقاربة المعاكسة، أي البحث عن أسباب لليأس والتشاؤم، لوجدت ضالتي، بلا شك، بطريقة أسرع وأسهل».
يعيب بعضهم على أمين معلوف هذا الميل المسرف إلى التفاؤل. لماذا أفضت العولمة إلى تغذية النزعات القومية والحروب العرقية، بدل أن تؤسس للتآخي والانفتاح والكوسمبوليتية كما توقّع في «الهويات القاتلة»؟ يوجّه صاحب «حدائق النور» (1991) أصابع الاتهام إلى الغرب من دون مواربة: «لقد كانت الحضارة الغربية، أكثر من أي حضارة أخرى، مختبراً لتوليد القيم والمبادئ ذات البعد الإنساني والعالمي. لكنّها عجزت عن تكريس تلك القيم، واستعملتها أداة للهيمنة على الشعوب الأخرى». وفي «خلل العالم» يتحدّث معلوف بمرارة عن مآسي حرب العراق، وفظائع سجن أبو غريب، للتدليل على المنزلقات الكارثية التي أفضت إليها «خيانة» الغرب لقيمه، ويخلص إلى أنّ الإنسانية جمعاء تدفع اليوم ثمن هذه الخيانة التي لا تهدد النظام الليبرالي الغربي فحسب، بل تمثّل خطراً على الضمير الإنساني بأكمله.
ويُرجع معلوف جذور الأزمة الأخلاقية الشاملة التي يواجهها الغرب حالياً إلى المنعطف الحاسم بعد انهيار جدار برلين الذي زرع بذرة الشطط المفضية إلى الأزمة العالمية الحالية. خلال الحرب الباردة، كان الخلاف بين الكتلتين الشرقية والغربية إيديولوجياً، خلق دينامية قوية من النقاش السياسي والحوار الفكري. لكن مع انهيار الكتلة الشرقية، اعتقد الغرب أنّه حقق نصراً نهائياً. فبشّر بعضهم بـ«نهاية التاريخ»، بينما أعلن آخرون «موت الإيديولوجيا». هكذا، لم يبق في ظل هيمنة القطب الواحد الأميركي أي مجال للحوار أو النقاش الفكري. وكان من الطبيعي أن تحلّ خلافات الهوية محلّ الخلافات الإيديولوجية: «أصبح كل طرف يُشهر انتماءه العرقي أو الديني أو الطائفي في وجه الغير. وهذا ما يفسّر لماذا أفضت العولمة إلى التفكك والانغلاق، بدل أن تؤسس لثقافة التفتّح والكوسمبوليتية».
هل تخلّى صاحب «الهويّات القاتلة» عن حلمه الكوسموبوليتي وهو يشخّص «خلل العالم»؟ إطلاقاً: «المَخرج الوحيد للأزمة الأخلاقية التي تعصف بالعالم حالياً هو التوصل إلى بلورة الشعور بانتماء مشترك بين الإنسانية كافة». ويضيف معلوف: «إذا استطعنا توظيف كل هذه التحديات من أجل إعادة صياغة العلاقة بـ«الآخر» على أُسس تحفظ الكرامة الإنسانية، فلن يبقى أجنبي في هذا العالم، بل سنكون جميعاً رفاق درب على طريق إعادة صياغة مستقبل البشرية».


5 تواريخ

1949
الولادة في بيروت

1976
غادر إلى باريس هرباً من الحرب الأهلية

1983
صدور كتابه الأول «الحروب الصليبية كما رآها العرب»

1984
رائعته الروائية «ليون الأفريقي» حققت نجاحاً عالمياً، وترجمت لاحقاً إلى 38 لغة

1993
نال «جائزة غونكور» الفرنسية العريقة عن «صخرة طانيوس»

2009
بعدما أصدر أخيراً كتابه خلل العالم: «حين تنضب حضارتنا» (غراسيه)، ويشتغل على رواية جديدة تدور أحداثها في الحرب الأهلية اللبنانية