إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

التطورات الأخيرة في اليمن مثيرة للقلق. الجنوبيون أعلنوا صراحةً رغبتهم في الانفصال، مجدداً. الاحتجاجات أصبحت أكثر دموية. الأزمة السياسية في صنعاء تزداد عمقاً، في ظل تمرّد حوثي لم يهدأ، وتغلغل مستمر لشبكات «القاعدة» في أرض تزداد خصوبتها لنمو الأصولية الدينية. منبع القلق أن هذا يجري في بلد يعبق برائحة التاريخ، الذي يبدو أنه يثقل كاهل أبنائه. بلد يعدّ مهد الإنسانية، بحسب بعض النظريات العلمية، وفيه قامت أول مملكة (حوالى 5000 ق. م. على يد يعرب بن قحطان واسمه الأصلي يمن أو يامن أو يمان، حسبما يفيد المؤرخون). وها هو يصارع تحديات القرن الحادي والعشرين ببنى اجتماعية اقتصادية تعود إلى قرون خلت: القبيلة.
صحيح أن أفكاراً من مشارب عدة عصفت به خلال القرن الماضي، عندما كان أحد محاور الحرب الباردة، مع ما يعنيه ذلك من محاولات تحديث لأدوات الإنتاج والعلاقات الاقتصادية، وتفكيك للبنى الاجتماعية التقليدية، واعتماد أطر وهياكل سياسية أكثر تطوراً. لكنه بقي عصيّاً على أي نمو؛ متمسكاً بحضارته الموغلة في القدم، وبإرثه الثقافي الإسلامي الأصولي، وبنظامه الاجتماعي القائم على تراتبية صارمة، وتفرقة تصل حد «العنصرية» تقوم على النسب والمهنة والانتماء المناطقي. بل متشبث بالزي التقليدي، ومعه «الجانبية»، وتعاطي نبتة القات المخدرة.
تاريخ يُظهر كيف أن اليمن، الذي وصف قبل عصور بـ«السعيد» نظراً لحال الازدهار والرفاهية التي كان يشهدها، يعاني عقدة التجزئة. تشرذم 12 مرة قبل الفتح الإسلامي، وست مرات بعده، كانت آخرها عام 1994، عندما فُرضت الوحدة بالقوة المسلحة. الانقسام الأخير كان بين جنوب (وشرق) احتلته بريطانيا عام 1839 وشمال (وغرب) عاد إليه العثمانيون في 1849. كان خط النفوذ بين الإمبراطوريتين الحدود التي قسّمت اليمن على مدى أكثر من 150 عاماً.
مرّ الكثير على هذا البلد خلال القرن العشرين وما تغيّرت الحال. مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، غادر العثمانيون الشمال، حيث قامت الإمامة الزيدية التي سقطت عام 1962 بثورة دعمها جمال عبد الناصر بالجنود والسلاح والمال. وقتها كانت السعودية والأردن يدعمان الملكيين الذين استمروا في محاربة الجمهورية الوليدة حتى 1967، يوم انكفأت الناصرية في أعقاب النكسة، وبدأ أفول ما عُرف بـ«العصر المصري». في ذلك العام، خرج البريطانيون من الجنوب على أثر ثورة اندلعت في 1963 بدعم سوفياتي، وتسلّمت السلطة جبهة التحرير الوطني التي سرعان ما سيطر الجناح الماركسي فيها عام 1969.
كان عام 1970 مفصلياً لشطري البلاد؛ اعترفت الرياض بالجمهورية الشمالية، التي بدأت ولوج «العصر السعودي»، فيما توحّدت جميع القوى السياسية الجنوبية تحت لواء الحزب الاشتراكي الذي أصبح الحزب الشرعي الوحيد في الجنوب.
مسار الوحدة بدأ باكراً رغم صراع معسكري ذاك الزمن وتحديداً في 1972 (إعلان نوايا). كان المخاض عسيراً، وبلغ نهايته في أواخر الثمانينيات مع بدء التقهقر السوفياتي ومعه الدعم الذي كان يخصّص للجنوب.
أُعلنت الجمهورية اليمنية في 1990 برئاسة علي عبد الله صالح، ونائبه علي سالم البيض. كان الأول يتولى رئاسة الشطر الشمالي. منصب بلغه في 1978 بدعم من السعودية والبنى التقليدية القبلية والإسلامية، إضافة إلى القوى البعثية العراقية المتحالفة مع الرياض في ذلك الوقت. آنذاك، كان الشمال يعتمد على المساعدات والتجارة مع العراق والسعودية. أما الثاني، فكان يشغل رئاسة الشطر الجنوبي منذ 1986.
وحدة طوعية لم تصمد أكثر من أربع سنوات، اندلعت في خلالها صراعات، غادر على أثرها البيض إلى منفاه الطوعي في سلطنة عمان. تدهور الوضع الأمني وأعلن الجنوب الانفصال في أيار 1994 فما كان من الشمال إلا أن أخضعه بقوة السلاح في تموز من العام نفسه. كانت علاقة اليمن مع باقي دول الخليج، وخاصة مع السعودية والكويت، قد تدهورت بسبب موقف صالح المؤيّد للغزو العراقي للكويت، وقد بقيت على هذه الحال طوال عقد التسعينيات.
مصالحة 1970 بين السعودية واليمن الشمالي أدّت إلى تهميش ملكيي صعدة ومن فيها من أتباع الزيدية التقليدية التي لا تعترف بالجمهورية. كانت تلك بذور التمرد الحوثي الذي أخذ شكله المسلح عام 2004 ولا يزال مستمراً. أما الوحدة القسرية في عام 1994 فقد أدّت إلى تهميش أهل حضرموت ولحج، حيث انطلق الحراك الجنوبي عام 2007 بعناوين مطلبية تقوم على إعادة العسكريين والموظفين المدنيين المفصولين وتسوية أوضاعهم ووقف تملك الشماليين للأراضي المصادرة من حكومة اليمن الجنوبي والمشاركة في الإدارة والمناصب.
تمرد وحراك في بلد، يعدّ من الأفقر في العالم العربي، ويستوطنه تنظيم «القاعدة» (عائلة بن لادن تنحدر من حضرموت)، الذي كشف عن رأسه هناك عام 2000 مع الهجوم على المدمرة «كول». سلطاته تتعاون في العلن مع أجهزة الاستخبارات الأميركية وتداري الإسلاميين في السر. جزء من حنكة صالح الذي يجيد اللعب على التناقضات، في الداخل والخارج، للحفاظ على نظامه، حيث المعارضة تزداد اتساعاً.
بلد يقف على فوهة بركان، يترقب قوة كبرى ذات مصلحة لتحفزه. انفجار حتمي ينتظر الظرف الإقليمي المناسب. هذا ما ينبئ به تاريخ اليمن السعيد.