لم يتغير السجن المركزي في رومية كثيراً. تطالعه المباني العملاقة نفسها دائماً. يُستدرج الداخل إليه إلى عالم القضبان. عالم غامض لا يقتحمه أي ضوء. لكن رغم ذلك، طرأت بعض التحسينات، عاجزةً عن أن تمحو ظلام السجن وإهمال الدولة. ما زالت وجوه السجناء تتّشح بالسواد
أحمد محسن
يجب على زائر السجن المركزي في رومية عبور ثلاث محطات للوصول إلى مبنى المحكومين. هناك، تتضح الصورة قليلاً. تستكين عيّنة من السجناء. بضع مئات من أصل 3550 نزيلاً، كان عددهم 4600 قبل ثلاثة أعوام. أول ما يلفت نظر زائر مبنى المحكومين، هو الممر الطويل، الذي يصل إليه بعد الصعود على درجٍ حديدي مستدير وضيّق. الممر واسع رغم طوله. يضيع فيه الصوت، وتظهر من الزنازين التي يحويها عيون وأيدٍ. عيون السجناء، وأيديهم التي تبحث عن الشمس، وتضيع في السجن.

مكتبة وحواسيب قديمة

يحصلون على هذه الشمس ثلاث مرات في الأسبوع، لمدة قصيرة لا تتجاوز ساعة. يتجمعون في باحة خلفية واسعة. آخر مرة زرنا السجن فيها، لحظنا أن بعضهم ترك فراشه في الشمس، كي ينال الضوء منه. أرهقتهم الرطوبة. فضّلوا النوم على الأرض لبرهة، حتى «يتشمس» فراشهم. خلف باحة مبنى المحكومين تقابلك أبواب «المرافق الحيوية في السجن المركزي». أول هذه المرافق، وربما أوسعها، هو قاعة المحاضرات والمناسبات الدينية. يخضع كل شيء هناك للنظام. يجتمع المسلمون والمسيحيون في تلك القاعة بالتناوب. يحصلون على مساحة لأداء واجباتهم الدينية. القاعة باردة في الصيف والشتاء، لتعذر وصول الشمس إليها. بضع مراوح كهربائية في السقف، ومنبر متواضع. وإلى جانب القاعة مكتبة السجن. مكتبة متواضعة إلى حدٍّ ما، يديرها أحد النزلاء القدامى، بإشراف إدارة السجن. تأخذ أغلب الكتب طابعاً دينياً، ويشد الانتباه تلفاز في منتصفها، لا يتوقف عن البث. قلائل هم السجناء الذين يقرأون، أكد أحدهم الذي صودف وجوده هناك. يفرك ذقنه بيده، ويفكر ملياً عندما نسأله عن الكتب التي تستعير اهتمامه. يشير الى موسوعة دينية صرفة، رغم أن شكله الخارجي لا يوحي أبداً أنه شخص متديّن. يضع وشماً مخيفاً على ذراعه، ظاهر للعيان، ولم يبهت لونه رغم سنوات السجن الكثيرة. يضحك بلطف. يخبرنا أنه أصبح متديناً داخل القضبان، لكنه لن يخرج منها. يعاود الضحك. يستمتع بالقراءة رغم أن ظروفه لن تسمح له باستغلال ثقافته الجديدة اجتماعياً، فهو محكوم بالسجن مدى الحياة. يدنو أحد رفاقه ويشيد به (لم تسمح النيّابة العامة بنشر أسماء السجناء أو صور وجوههم). «لولاه لكانت المكتبة مثل فوق»، يقول السجين الحديث العهد، مشيراً بإصبعه إلى مبنى المحكومين. والمقصود بفوق، الزنازين. يسهل اكتشاف تعاون غير معلن بين نزلاء السجن والقوى الأمنية. يتجلى هذا التعاون في الغرفة الإلكترونية المحاذية لقاعات إحدى الجمعيات الدينية الموجودة. لكن التعاون ليس كافياً، فالحواسيب الإلكرتونية تخاطب مستخدميها بالغبار. يبدو عليها القدم، ويعود أحدثها إلى أوائل القرن الحالي. لكن وجودها لطيف، يهمس أحد النزلاء. يقول إن وجود حواسيب في السجن «شي مهضوم». الجو ليس متشنجاً دائماً، رغم الظروف المأساوية للمكان. تحاول القوى الأمنية قدر المستطاع التكيف مع حساسية الموضوع: أن تُجلس إنساناً في غرفة، وأن تحرمه حريته. تعطيهم ساعة أسبوعية، لمن يرغب منهم، بالتعرف إلى العالم الإلكتروني، وإن كانت تلك المعرفة ناقصة، لسبب وحيد، أن الحواسيب دخلت إلى السجن هبةً من أحد المتبرعين، ولم يُصَر إلى تحديثها حتى اليوم. لم تنتبه ميزانية الدولة اللبنانية إلى ضرورة الاهتمام بالسجن.

«17000 نزيل سنوياً»

نجح السجناء القاصرون في إصلاح 2200 آلية عسكرية خلال عامين ونصف عام
يقول مسؤول أمني رفيع، مشرف على إدارة السجن يومياً، إن حالة السجن تحسنت كثيراً عمّا كانت عليه منذ بضع سنوات، من دون أن ينفي أن التحسينات ليست كافية. يبدأ تعداده «لإنجازات القوى الأمنية في السجن»، من الناحية الثقافية. «نزلاء وليسوا سجناء»، يصر المسؤول الأمني على أن الجانب الثقافي هو الأهم شكلاً ومضموناً، في التعاطي مع الأشخاص الفاقدين لحريتهم. والوصف ينطبق على مجموعة منهم، تتوزع على مساحة كبيرة من عالم رومية: مبنى المحكومين، مبنى الموقوفين، جناح الأحداث (القاصرين)، البيت المركزي، والمأوى الاحترازي. أكثر من ذلك، فإن أماكن أخرى مشابهة، تخضع لسلطة آمر السجن المركزي نفسه، ما قد يصعّب عليه متابعة المستجدات. سجن بعبدا للنساء، وسجن القاصرات في ضهر الباشق، إضافة إلى نظارة عدل قصر بيروت، يخضعون بدورهم للقيادة الأمنية نفسها. يطلق المسؤول الأمني رقماً ثقيلاً: «17000 ألف زائر هو المعدل السنوي لحركة السجناء، بين دخول وخروج». ولا يعني هذا الرقم أن العدد ثابت، لكن بين نزلاء جدد، وخارجين عند انتهاء مدة أحكامهم، أو أسباب توقيفهم، يتخذ الرقم هذا الشكل المخيف. وعلى الرغم من هذه العدد، إلا أن القوى الأمنية سجلت «بعض الإنجازات الملموسة». في السجن اليوم كابينات للهاتف، يسمح لكل نزيل باستعمالها مرة في الأسبوع لمدة خمس دقائق. ليست كافية طبعاً، لكن العدد الهائل لنزلاء السجن لا يسمح بأكثر من ذلك. يبتاع لهم أقاربهم البطاقات الهاتفية، لسماع أصواتهم. ومن التحسينات الجديدة أيضاً، استحداث مركز طبي لمعالجة مدمني المخدرات، وإقامة دورات تدريبية على الإسعافات الأولية، أسهمت بعض الجمعيات الإنسانية في تنظيمها، وقاعة المقابلات العائلية (راجع «الأخبار» السبت ٢١ آذار ٢٠٠٩).
وفي سياق منفصل، لفت المسؤول الأمني إلى إيجاد مكبّ جديد للنفايات «للتخلص منها بطريقة حضارية»، ما يدل على أن الأمور في السابق لم تكن على ما يرام في هذا الإطار. وكما هي حال النفايات، كانت حال خزانات المياه قبل أن يصار إلى تجديدها وبناء غرف خاصة بالحجر الصحي. ويتمسك المسؤول بإنجاز مهم يكاد أن يفوق كل التحسينات الأخرى أهميةً، حيث يشير إلى أن القاصرين كانوا يوجدون في مكانٍ واحد مع الراشدين في الزنازين، قبل عام 2004. تختلف الصورة الآن. تعززت مشاغل الأحداث، وقد خضع هؤلاء لدورات في صيانة محركات السيارات، الحدادة والبويا، وكهرباء الآليات، وحصلوا على شهادات من مديرية التعليم المهني والتقني. أكثر من ذلك، نجح السجناء القاصرون بإصلاح 2200 آلية عسكرية تابعة لقوى الأمن الداخلي خلال عامين ونصف عام فقط. يمكن أن يكونوا منتجين فعلاً. تعلموا الموسيقى أيضاً، وخضع العاملون في السجون لدوراتٍ تثقيفية في احترام حقوق الإنسان، من شأنها أن تسهّل العلاقة بين جميع القابعين بين الجدران. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى إقامة نظارة خاصة بالنزلاء العسكريين والأمنين لتجنب وقوع حساسيات لا تحمد عقباها. ورغم كل هذه المعطيات الجديدة، لا يزال السجن بحاجة إلى الكثير وفقاً للمسؤول الأمني المشرف. الكادرات الطبية ما زالت ناقصة، طبيب اختصاص واحد فقط يتطوع لزيارة النزلاء كل أسبوعين. السجناء بحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير.


«حبوب» تدخل في البطاطا

يشطّبون أجسادهم دورياً. يبدو سؤالهم عن ذلك مستغرباً، ومضحكاً لبعضهم الآخر. يأتون بالآلات الحادة من حيث استطاعوا. في السجن أجهزة عديدة، تلفزيونات، برادات، مراوح، والأهم من ذلك كله قطع البورسلين. والأخيرة، هي الأشهر فيما بينهم لممارسة الأذى بحق أنفسهم. وأشار مسؤول أمني على تواصل دائم مع السجناء، إلى أن وسائل حصولهم على الحبوب المهدئة، التي تنسيهم الألم، ليست معددوة على الإطلاق، لافتاً إلى أن عدداً كبيراً من الشرطيين يتورطون بمثل هذه الأعمال، وقد نجحت القوى الأمنية بتوقيف عدد كبير منهم، تمهيداً لمحاكمتهم. يوضّبون الأقراص المهدئة الممنوعة بأكياس نايلون، ويبتلعونها، تمهيداً لأخذها من المراحيض. ضبطت الشرطة كمياتٍ من هذه الحبوب في حبات البطاطا المسلوقة، والبيض، وحاجات أخرى أدخلها بعض الأقارب إلى أبنائهم. وفي ظاهرة لافتة، يُسمح للبعض بتناول حبوب مهدئة وإدخالها إذا كان حاصلاً على وصفة طبية. بيد أن للأمر تداعيات، إذ تظنّ القوى الأمنية أنهم يهربون الحبوب إلى زملائهم من النزلاء.