strong>ورد كاسوحة *يبدو أن الأزمة الإيرانية لم تصل إلى خواتيمها بعد، رغم كل ما يُشاع هنا وهناك عن تسويات ومصالحات بين «طرفي الصراع». قد يكون لهذه التسريبات سند حقيقي في ما يتعلق بالبنى الفوقية للأزمة، أي طبقة رجال الدين (بشقيها المحافظ والإصلاحي) الذين يحكمون هذا البلد حتى إشعار آخر، غير أن هذا السند لا يلبث أن يفقد مشروعيته بمجرد الاقتراب من قاع الأزمة وجذرها الفعلي: الجيل المديني الجديد الذي شبّ عن الطوق، ولا يكاد يعرف عن نظام الملالي إلا اسمه الحركي (نظام ولاية الفقيه).
هذا الجيل الذي يتوزع على كبريات المدن الإيرانية (طهران، أصفهان، تبريز...) لا تعنيه كثيراً قضية العزة القومية التي باتت ترتبط بملف إيران النووي، ولا يظهر من شعاراته المرفوعة في الساحات والمدن الإيرانية (تشبه كثيراً شعارات «ثوار الأرز») أنه يعير أي اهتمام للقضية الفلسطينية ولدور إيران الثورة في مساندتها. جلّ ما يهمه هو قدر أكبر من الحريات السياسية ومن اللبرلة الاقتصادية. ويضاف إلى هذه وتلك، رغبة دفينة في التمثل بالغرب والقول له لسنا كما يريد لك النظام أن تظن، وأن من يمثلنا حقيقة ليس أحمدي نجاد ولا مير حسين موسوي ولا حتى محمد خاتمي. هؤلاء جميعاً لم يقنعونا كفاية ولن يكون بمقدورهم أن يقدموا لنا ربع ما قدمه عباس كياروستامي أو محسن مخملباف أو مجيد مجيدي (السينما في إيران باتت تمثل هذا الجيل أكثر مما يفعل السياسيون).
قد لا يكون هذا بالضبط ما يفكر فيه الجيل المديني المنتفض في إيران، لكنه يبقى الأقرب إلى هواجس هؤلاء وإلى صورتهم عن «إيران المستقبل». وهذه القطيعة المشتهاة مع إرث الملالي لا يمكن استواؤها في نظر هذا الجيل، إلا بعد إنهاء قطيعة أخرى مماثلة في راديكاليتها ولكن مخالفة في وجهتها.
قطيعة أحدثها جيل الآباء مع الغرب الكولونيالي ومنظومته الأيديولوجية، وراكم عليها كمّاً من «التناقضات» كان لا بد له من أن «ينفجر» في وقت ما. وأي وقت أفضل من هذا الذي يشهد هيمنة «ليبرالية» (والأصح نيوليبرالية) مطلقة على مختلف أنماط الحياة والعيش في هذا العالم. كنا نظن أن هذا التيار قد انحسر قليلاً بعد الأزمة التي وقعت في قلب النظام الرأسمالي وأصابت منه «مقتلاً»، غير أن الأحداث في إيران وقبلها فوز التيار الموالي للغرب في لبنان، أثبتا إلى جانب نماذج أخرى، أن حالة الاستلاب أمام هيمنة الغرب سياسياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً «لا تزال على حالها»، لا بل هي مرشحة للتفاقم ما لم يكن لدى مناهضيها أجندة حقيقية للتغيير. أجندة تمتلك القدرة على المجابهة والرفض وتقديم البدائل، وإلا فسنشهد مزيداً من «الثورات» الملوّنة على الشاكلتين الجورجية واللبنانية، وربما الإيرانية في المستقبل. وفي انتظار تبلور واضح وعقلاني لجبهة المناهضة هذه، لا بد من مقاربة مختلفة لهذا الاستلاب الجمعي أمام المنظومة الكولونيالية الغربية. وهذا يتطلب من الدول التي تنشط فيها هذه التيارات، قدراً أكبر من المرونة في التعاطي مع هذه «الحيويات» النيوليبرالية الفائضة.
قد لا يتفق المرء بالضرورة مع ما يطرحه أولئك الشباب من أفكار ممالئة للغرب، لكن هذا الخلاف يجب أن يبقى في سياق التداول السلمي للأفكار كما عودتنا إيران في كثير من المحطات (لا في جميع المحطات)، لا أن يتحول إلى مناسبة لتصفية الحسابات بين الأجنحة المختلفة للطبقة المهيمنة.
والأسوأ أن هذه التصفية قد ارتدت شكلاً عنفياً وقمعياً طال أول ما طاله، شرائح الشباب وطلبة الجامعات الذين استُخدموا، كما استخدم نظراؤهم في لبنان، وقوداً لحروب أجنحة النظام المهيمن. وفيما هم ماضون في أوهامهم عن «التغيير» وإسقاط نظام الملالي (وهو شعار لم يقربه موسوي الولد المدلل للخميني على الإطلاق) يذهب «قادتهم» خطوة أبعد باتجاه «التطبيع» مع السلطة وإقامة التسويات معها. تسويات وضعت على نار حامية، ولم يبق إلا «القليل» لتظهيرها وإخراجها من «مطابخ» «قم» ومجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام. هناك حيث القرار الحقيقي، وحيث لا كلمة تُذكر لمحمود أحمدي نجاد أو لموسوي أو لخاتمي أو لكرّوبي أو لرضائي. فقط كلمة وريثي الخميني هي السائدة والمهيمنة، وهي التي تفضّ الخلاف أو تفجره، ومن يبحث عن حلّ «للشقاق» الحاصل في إيران حالياً فلن يجده إلا عند المرشد ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام. أما ما يجري في الشارع، فهو من عدة الصراع بين الرجلين. صحيح أننا لم نشهد من جانب التيار المحافظ تحشيداً مماثلاً لذاك الذي «افتعله» الإصلاحيون، إلا أن الظهور الكثيف لميليشيات الباسيج لاحقاً، قد تكفّل بالأمر، وأظهر إلى أي حدّ يمكن أن يستفز «الوجه المدني» للنظام نظيره المسلح، ويدفع به إلى الشارع مواجهاً وقامعاً بأقسى ما يكون عليه القمع.
ورغم وطأة هذا القمع وتبديده إلى حد ما أسطورة الاستقرار في إيران (القمع والاستقرار في العالم الثالث ليسا صنوين على الدوام)، فإن النظام بجناحيه لم يستنفد بعد أغراضه ولا قدرته على تجديد ذاته. وهذه سمة «تميّز» النظام الإيراني عن سواه من أنظمة المنطقة وتزيد من حيرة الغرب وارتباكه إزاء هذه الكتلة الخمينية الصلبة. كتلة لم ينفع معها أي شيء، فلا الحرب مع العراق هزّتها بالقدر الكافي، ولا سنوات الحصار والعزل أنهكتها كما يجب، ولا هذه الأحداث الأخيرة صدّعتها بما يكفي للقول بأن أوان السقوط قد حان.
لقد كان الخميني داهية في السياسة وفي ابتداع أساليب المواجهة مع الغرب. وما فاقم من دهائه وخبثه، وجوده في محيط عربي ينضح بالتصحر الفكري والغباء السياسي وقلة الحيلة. وليس غريباً والحال كذلك، أن يكون النظام الإيراني، رغم أزمته المستفحلة حالياً، أكثر الأنظمة في المنطقة «حيوية» (إلى جانب تركيا وإسرائيل) وقدرة على الاستمرار والديمومة. والشرخ الذي أصاب شرعية النظام بعد عمليات القمع المنظم للطلبة في شوارع طهران، لن يلبث أن «يلتئم» بمجرد أن تنعقد التسوية ويعود الشباب إلى جامعاتهم، وتطوى أحلام التغيير ولو إلى حين. فهذه الأحلام لم تنبنِ أساساً على دعائم واقعية وصلبة، ولم يتح لها أن تنهض على حوامل اجتماعية تثويرية، كتلك التي نهضت عليها ثورة الخميني قبل ثلاثة عقود. ذلك أن غياب الطيف اليساري والعلماني عن «الانتفاضة» الحالية، حرم الشباب الإيراني من مساهمة فذّة كان يمكن لها أن تلعب دوراً مماثلاً لدور الشيوعيين الإيرانيين في إسقاط الشاه.
غير أن واقع الحال يقول عكس ذلك؛ فالحراك اليوم مختلف تماماً عما كان عليه في عام 1979، والديكتاتور المراد إسقاطه اليوم ليس عميلاً للغرب كما كانت عليه حال الشاه حينها، والتيار اليساري الذي حمل الخميني إلى سدة الحكم وقتها يكاد يضمحل حالياً لشدة ما وقع عليه من اضطهاد على يد حليف الأمس وثورته الإسلامية. لذا يبدو من غير الواقعي اليوم، تحميل الحاضر الإيراني ما لا قدرة له على احتماله، وبالتالي إسقاط «إرادويتنا اليسارية» على وقائع ذات حمولة إسلامية صرفة، وإن تلونت أحياناً بتلاوين ليبرالية شبابية لا تلبث أن تعود إلى قواعدها الإسلامية الراسخة «رسوخ الجبال». وهذه حقيقة لا يريد الغرب الكولونيالي فهمها أو التسليم بها، الأمر الذي يفسر حدة الأزمة المندلعة حالياً بينه وبين النظام في إيران. فقد أثبتت الأيام الماضية صحة القاعدة التي تقول بأن الغرب لم يدعم حركات «إصلاحية» و«مناهضة للاستبداد» في العالم الثالث، إلا ليفسدها وينزع عنها الشرعية. حصل هذا الأمر في لبنان والعراق وها هو يتكرر على نحو أكثر سوءاً في إيران.
قد يشكّك البعض في صحة هذا التحليل، نظراً للفارق الكبير مثلاً بين حركة مير حسين موسوي ذات الجذر والمنشأ الداخلي، وحركة 14 آذار في لبنان الكولونيالية الطابع والتوجه والشعارات. غير أن صحة هذا التشكيك لا تنفي هشاشته وقدرته المحدودة على تشخيص أهمية العامل الغربي في ما يحدث. والدليل على ذلك إلحاق كثير من المراقبين حركة موسوي وإن قسرياً، وعلى نحو غير موضوعي بقافلة «الثورات» الملونة. وخصوصاً بعد الدخول الغربي (الأميركي والبريطاني والألماني والفرنسي) السافر على الخط وإبدائه دعماً علنياً وموصوفاً لمير حسين موسوي وحركته «الإصلاحية» (رغم أن موسوي يصف نفسه بأنه محافظ متشدد وأمين على إرث الخميني أكثر من نجاد نفسه!). دخول ودعم لن ينفعا المتظاهرين في شوارع طهران في شيء، ولن يقلّلا من حدة القمع الذي يتعرّضون له، لا بل قد يدفعان النظام إلى إظهار مزيد من التشدد تجاههم على اعتبار أنهم باتوا حسب الرواية الرسمية، جزءاً عضوياً من المخطط الغربي المعدّ منذ فترة (حتى قبل الانتخابات) لإسقاط التجربة الإيرانية «الرائدة» في الجمع ما بين «الديموقراطية الدينية» ومناهضة الغرب.
وما زاد الطين بلّة، الشارات الخضراء التي رفعها أنصار موسوي وجعلوا منها رمزاً لحملتهم الانتخابية والاحتجاجية. وهي شارات قد تدفع أكثر المتعاطفين معهم في الخارج (وخصوصاً في أوساط اليسار الراديكالي) إلى الريبة والحذر نظراً للتجارب السابقة المريرة مع حملات إعلامية مماثلة، إن في لبنان أو في أوكرانيا أو في جورجيا. و«الخوف كلّ الخوف» أن تلقى هذه الاندفاعة الشبابية في إيران المصير ذاته الذي لقيته تلك التجارب «التثويرية» ذات الجذر الكولونيالي، لا السيادي كما يجب على حملة موسوي أن تكون.
قطعاً لن تعود إيران بعد الثاني عشر من حزيران الفائت كما كانت من قبل. غير أن التجربة علمتنا أن نفكر مليّاً قبل إطلاق الأحكام المبرمة والقطعية على محاولة غنية وملتبسة كمحاولة الخميني في بناء «دولة الثورة». فما جرى من تصدعات وانشقاقات أخيراً لم يكن ممكناً «احتواؤه» لولا الالتباس الذي أراد له الخميني أن يكون في صلب النظام، وأن يقيم فيه إلى أمد «بعيد». وهنا تكمن المفارقة في الوضع الإيراني، إذ كيف يمكن العطب الأساسي في قلب النظام (ثنائية رجل الدين ــــ رجل الدولة) أن يلعب دور «المنقذ من الانهيار»، وأن يعيد إنتاج النظام عند كل مفترق وجودي (تظاهرات الطلبة في عام 1998 والشقاق الحالي بين خامنئي ورفسنجاني)؟ والتفسير الوحيد الذي يمكن إعطاؤه لهذه الظاهرة هو انعدام حيلة الكثيرين في الداخل والخارج تجاه قدرة الخمينية السياسية على «الاستمرار» و«التأثير» و«صناعة اللحظة» (وقد تكون اليوم لحظة أفول)، رغم مرور عقدين على وفاة مؤسسها وملهمها.
* كاتب سوري