ياسين تملالي *في 4 تموز / يوليو، انطلقت في الجزائر فعاليات «المهرجان الأفريقي الثاني» التي ترمي، حسب وزيرة الثقافة الجزائرية، خليدة تومي، إلى «تأكيد عمق جذورنا الأفريقية، وإحياء ذكرى المهرجان الأفريقي الأول الذي نظم في المدينة ذاتها لأربعين سنة خلت، في 1969». وتشارك في هذه التظاهرة، وفود 51 دولة، ويبلغ عدد ضيوف الجزائر بمناسبتها ما لا ينيف عن ثمانية آلاف ضيف. أما الأنشطة المبرمجة، فتشمل كل الفنون، التقليدية منها والمعاصرة، وتستهدف التعريف بروائع فنية لا يعترف بها الجزائريون، ولا الأفارقة غالباً، للأسف، إلا بعد أن تنتزع إعجاب الأوروبيين.
ما أجمل أن تُجمع الجزائر أمرها على إعادة استكشاف «جذورها الأفريقية»، وأن ترد بهذه الطريقة على الانعزاليين، ممن يريدون لها هوية وحيدة لا ثانية لها: إما عربية أو أمازيغية أو متوسطية أو «جزائرية». ما أروع أن تحتضن إحدى دول «أفريقيا البيضاء» (كما كانت الأتنولوجيا الاستعمارية تسمي الشمال الأفريقي) الثقافةَ والفن الأفريقيين.
لكن السؤال يطرح نفسه: هل سيشبه هذا المهرجان الأفريقي تظاهرة «الجزائر عاصمة الثقافة العربية»؟ وبعبارة أخرى، هل سيتمخض الجبل الأفريقي فيلد في «بلد المليون ونصف مليون شهيد» فأراً هزيلاً، سيكون دليلاً دامغاً على عجز تلاقح دولة بوتفليقة المنفتحة على العالم القاصي مع محيطها القريب الداني؟
كان أمل الكثير من الجزائريين كبيراً في أن تكون تظاهرة «الجزائر عاصمة الثقافة العربية» بادرة لتصالح بلدهم مع ثقافة هي أحد روافد ثقافته. لكن الأمل سرعان ما خاب، فلم يكن من وتر عربي حقيقي لدى منظميها. أما الثقافة الجزائرية فتمثلت فيها أساساً ببيروقراطية ثقافية يتمنى أساطينها أن يكون مآلهم مآل عز الدين ميهوبي نفسه، رئيس اتحاد الكتاب الأسبق، أي تبوّء منصب وزاري، مهما كان، وإدارة الراديو الرسمي وما إلى ذلك من المهمات الإبداعية.
ويبدو أن أمل استعادة الجزائر جذورها الأفريقية مرشح هو الآخر لأن يخيب. فجل مسؤولي المهرجان الأفريقي لا علاقة لهم بأفريقيا لا من قريب ولا من بعيد. أما ما يعرفونه عنها، وما يجيدون تكراره في أحاديثهم إلى الصحافة، فلا شك بأنهم تعلموه بحكم الضرورة البحتة وهم يُكلفون، إدارياً، بإنجاح هذه التظاهرة كما أنجحوا من قبلها «سنة الجزائر في فرنسا» و«الجزائر عاصمة الثقافة العربية»، بدليل بلوغ الفن والأدب الجزائريين مرتبة الخلود في باريس وترسخ الانتماء العربي نهائياً في نفوس المثقفين الجزائريين. هل يسعنا الوصول إلى غير هذا الاستنتاج ونحن نعجز عن أن نستشف في تصريحات هؤلاء المسؤولين أية دراية بتراث القارة الثقافي أو بفنها وأدبها المعاصرين. على موقع المهرجان مثلاً، كلام خشبي جميل عن «نهضة الثقافة الأفريقية» بعد «انجلاء ليل الاستعمار»، لكن لا دليل على أن كاتبيه يعرفون شيئاً عن ثقافة القارة وهم يستعيدون، لفظياً، ذكرى الجزائر عندما كانت «قبلة الثوار» و«السند الرئيسي» لحركات التحرر. كل أدلة معرفتهم بها أسماء كتاب وفنانين يتبارون في الاستشهاد بها كمن أفنى حياته في سبر أغوار الأدب والفن الأفريقيين.
ويمكن تفسير فشل الجزائر في جعل تظاهرة «عاصمة الثقافة العربية» وسيلة لتقوية الأواصر مع العالم العربي بكون الثقافة وثيقةَ الارتباط بالسياسة مهما بلغت درجة استقلايتها. والحال أن سياسة الجزائر العربية أضحت في خبر كان، فلا دور لها في الشرق الأدنى مثلاً، إذا استثنينا استقبالها جرحى عدوان تموز 2006 على لبنان، وتأكيد مساندتها للشعب الفلسطيني، وبطبيعة الحال، مشاركتها في اجتماعات وزراء الداخلية العرب، وهي، كما لا يخفى على أحد، أكثر انتظاماً من القمم العربية ذاتها. ويمكننا أن نفسر استحالة تحول المهرجان الأفريقي الثاني إلى عربون مصالحة بين الجزائر وامتدادها القاري بغياب أفريقيا شبه التام من أجندة السياسة الجزائرية. ما هي سياسة الجزائر الأفريقية اليوم؟ هل هي موجودة أم مجرد تركة ما زالت دبلوماسية بوتفليقة تحتفل بها وتعيش على ريعها الرمزي؟ لا أسهل للإجابة عن هذين السؤالين من ملاحظة الفرق بين حضور الجزائر الحالي في القارة، وحضورها فيها في الستينيات والسبعينيات، وحتى خلال «العشرية السوداء»، الثمانينيات، عندما كانت ترزح تحت حكم «رئيس أمي» هو الشاذلي بن جديد.
وقد أعطى الدبلوماسي الجزائري الأسبق، عبد العزيز رحابي، على هذا الفرق مثالاً بليغاً. من 9 نيسان / أبريل 1999 إلى 9 نيسان / أبريل 2009، يقول، «لم يقم رئيس الدولة، (عبد العزيز بوتفليقة) بأية زيارة رسمية ثنائية إلى أفريقيا، ولم يستقبل أكثر من ثلاثة رؤساء دول أفارقة، إذا استثنينا أولئك الذين استقبلهم خلال قمة الاتحاد الأفريقي المنعقدة في الجزائر في تموز / يوليو 1999» (جريدة الوطن الجزائرية، 8 أبريل / شباط 2009). ويضيف هذا الدبلوماسي: مقابل عدم اكتراثه التام بـ«عمقنا الاستراتيجي الوحيد، ساحل الصحراء، زار فرنسا ما لا يقل عن ثماني مرات قي ظرف عشر سنوات». ما أبعد هذه «السياسة الأفريقية» عن تلك التي حفزت الشاذلي بن جديد، بين 1979 و1991 على القيام بسبع وثلاثين زيارة رسمية ثنائية إلى دول أفريقية واستقبال سبعة وأربعين زعيماً أفريقياً.
«سياسة المهرجانات»، يقول عبد العزيز رحابي عن سياسة بوتفليقة الخارجية. هذا الوصف ينطبق حرفياً على المهرجان الأفريقي الثاني.
* صحافي جزائري