تبدأ معاناة المحامين الشباب مع البحث عن مكتب التدرّج، ولا تنتهي عند محاولة توفير مصاريف العمل. التدرّج في مهنة المحاماة ليس فقط محطة إعدادية في حياة المحامين الجدد، بل هو مرحلة تعريفهم على وضع العدالة الناقصة وأمور أخرى لا علاقة لها بالقانون
سوسن بدران
اجتاز إيلي امتحان التسجيل في نقابة المحامين، وقُبل محامياً متدرّجاً، لكنّ معالم الفرحة لم تكتمل على وجهه إثر إعلان النتائج في نقابة المحامين في بيروت. نشوة النجاح بدّدها هاجس توفير رسم الانتساب الذي يبدأ بـ3 ملايين و210 آلاف ل.ل. للذين لم يتجاوزوا سن الـ30، لترتفع القيمة بالنسبة إلى من هم أكبر عمراً.
ليس بعيداً عن إيلي، تقف متبارية والصدمة تكاد تسقطها أرضاً، فهي لم تصدق أن اسمها غير وارد، للمرة الرابعة، في قائمة المقبولين في امتحان التدرّج. كانت تردّد باكية «قفّلت المسابقة، ما معقول أرسب، أكيد في شي غلط».
مشهد إيلي وزميلته يتكرر كلما أُعلنت نتيجة لامتحان التدرّج في المحاماة، ويمثّل هذا المشهد حلقة أولى في سلسلة معاناة أو مصاعب يواجهها محامو المستقبل.
قبل خضوع طالب التدرج للامتحان، عليه أن يُقيَّد على اسم محام في الجدول العام، إذ إن المادة 12 من قانون تنظيم المهنة تنص «على المحامي المتدرّج الذي يطلب تسجيل اسمه في نقابة المحامين أن يعيّن في طلبه اسم المحامي الذي يرغب التدرج في مكتبه، وأن يبرز وثيقة تثبت موافقة هذا المحامي على قبوله متدرّجاً في مكتبه»، وهنا تبدأ «عملية البحث عن مكتب محاماة»، وهذه الخطوة دونها شروط كثيرة، منها ما هو قانوني ومنها ما يعود إلى أسباب أخرى. فبحسب المادتين 24 و22 من النظام الداخلي لنقابة المحامين في بيروت، «لا يقبل متدرّج أول في مكتب محام إلا بعد مرور سبع سنوات على قيد هذا الأخير في الجدول العام، ولا يقبل متدرّج ثانٍ إلا بعد مرور 10 سنوات على قيد المحامي في الجدول العام... وثالث إلا بعد مرور 15 سنة على قيد المحامي في الجدول العام... ورابع إلا بعد مرور 20 سنة...».
فيما يخص زيادة عدد المتدرّجين عن 4، يكون لمجلس النقابة حق التقدير المطلق في ذلك، كذلك ينبغي أن يخصص صاحب المكتب للمتدرّج غرفة مستقلة وصالحة لممارسة المهنة. إلى ذلك، فإن المكاتب بمعظمها لا تستقبل «أيٍّا كان، فهناك اعتبارات عائلية وحزبية في بعض الأحيان، والمظهر الخارجي بالطبع يؤدي دوره لدى البعض»، تقول فاطمة التي فشلت، بعد مرور سنتين من التحرّي والبحث، في إيجاد مكتب للتدرّج، مردفةً «محظوظ من يحظى بمكتب حالياً». كلام فيه الكثير من المنطق، وخصوصاً إذا احتسبنا نسبة متخرّجي الجامعات سنوياً من كليات الحقوق، التي تبلغ مئات سنوياً. في المقابل، فإن عدد الطلاب الذين يخضعون لامتحان الانتساب إلى النقابة يبلغ نحو 500 شخص في كل دورة.
يستغلّ بعض المحامين الأمر ليتحولوا إلى مؤجّري مكاتب. هذا ما حصل مع محمود الذي اشترط عليه أحد المحامين دفع مبلغ 2000$ سنوياً مقابل تسجيله في المكتب، ما دفع محمود إلى الانتظار ستة أشهر لإيجاد مكتب مناسب.
بعد القيد على اسم محام، لا بد من جمع شروط أخرى ليس أهمها أن يكون المتدرّج لبنانياً منذ أكثر من عشر سنوات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن المجنّسين لا يحق لهم الانتساب إلى النقابة.
بعد تقديم المستندات المطلوبة، يُخضع إلى اختبارين: شفهي وخطي، تحدد النقابة موعدهما. وتُنظَّم سنوياً دورتا امتحان، فمن لم يجتز الاختبار بنجاح في الدورة الأولى، يحق له التقدم إليه في الثانية، ليحرم من بعدها من التقدم إلى الامتحان لحوالى تسعة أشهر على الأقل من تاريخ إعلان نتائج الاختبار السابق، علماً بأن نسبة النجاح في هذه الامتحانات لم تتجاوز في السنوات الست الماضية 45% من المتقدمين إلى الامتحانات.
هنا تكمن «العلقة» بالنسبة إلى بعض الطلاب الذين يواظبون على التقدم إلى الاختبارات، فيخرجون بعد أكثر من 5 مرات خالي الوفاض، و«الواسطة غير مستبعدة أحياناً كجسر للنجاح، والتوزيع الطائفي يؤدي دوره أيضاً»، تعلق مريم، مبرّرة سقوطها في الامتحان للمرة الخامسة على التوالي، وذلك رغم تأكيدها «كنت أعمل منيح بالامتحان»، ولكن هذا التبرير نسمعه على ألسنة عدد ممن لا يحالفهم الحظ في امتحانات التدرّج دون أن يقدموا دليلاً يثبت كلامهم. بيد أنه «حتى الناجح مش مرتاح»، هذا ما يقوله المحامي المتدرّج محمود، مردفاً أن «التدرّج في هذه المهنة تكاليفه باهظة، بدءاً من رسم الانتساب وما يتبعه سنوياً من رسوم أخرى، وصولاً إلى تكاليف الـprestige وهو عماد المهنة، ولا سيما المظهر الخارجي»، وهذا جليٌّ في الفقرة الثانية من المادة الثالثة من نظام آداب مهنة المحاماة ومناقب المحامين؛ «على المحامي الاعتناء بمظهره الخارجي، ولا سيما بلباسه الذي يجب أن يكون لائقاً ومتفقاً مع ما تفرضه المهنة من مهابة». كل ذلك في ظل حظر الجمع بين المحاماة والكثير من المهن والوظائف، كالوظائف العامة (باستثناء النيابية والبلدية)، وجميع المهن التي تبتغي الربح والأعمال الصناعية والتجارية...
في إطار معاناة المتدرّجين، يمكن الكلام عن «كيفية تعامل المدرّج مع المتدرّج». من هنا ترى المحامية المتدرّجة روزان أن التدرّج في بعض المكاتب يشبه «العمل سخرة، وفيه استغلال للمتدرّج»، متحدثة بألم عن التجربة المريرة التي تعيشها في مكتب المدرّج. وتقول «حتى بدلات النقل اليومية ما بشمّ ريحتها»، ويتغاضى أصحاب بعض المكاتب عن دفع بعض مصاريف المكتب الإضافية.
في إطار الحديث عن تكاليف بدل النقل، يختلف الوضع في مكاتب العاصمة عما هو عليه في المحافظات، وذلك بسبب كثافة العمل في بيروت، إذ ترتفع قيمة بدلات النقل، فيبدو المتدرّج في بيروت مرتاحاً أكثر من زملائه في المناطق الأخرى. رلى واحدة من هؤلاء الذين تدفع لهم المكاتب علاوة على بدل النقل. مصروفها الشخصي شهرياً «بكفّيني وبزيادة»، فيما تدفع مكاتب أخرى بدل أتعاب على الملفات التي ينجزها المتدرّج، وهنا نلفت إلى أن المادة 37، وبالعودة إلى النظام عينه، تشير إلى أنه على المحامي المدرِّج أن «يشجّع المتدرّج مادياً ومعنوياً»، بيد أن عبارة «التشجيع المادي» لها في أذهان المدرِّجين، على ما يبدو، تأويلات مختلفة، «فعدد كبير منهم أغفل هذه العبارة في قاموسه نهائياً، والبعض يتمتع بأخلاق رفيعة ويعطي المتدرّج حقه»، يقول المتدرّج حازم، متسائلاً كيف يمكن للمتدرّج في ظل ما يفرض عليه، خلال سنوات التدرج الثلاث، أن يوفّر مصروفه؟ مضيفاً أن هذه المهنة ليست «لمين ما كان». المتدرّجون أبناء الطبقات الميسورة لا يشعرون بالمعاناة كحال غيرهم من الزملاء.


إنها مهنة حرة!

يوضح عضو مجلس نقابة المحامين في بيروت المحامي جورج نخلة أن مهنة المحاماة هي من المهن الحرة، وليست وظيفة. وينطبق الأمر تباعاً على المتدرّجين. فالمدرِّج لا يلزم بدفع راتب محدد، بل بتأهيل المتدرّج مهنياً. ويشير نخلة إلى أن النقابة بصدد إصدار قرار لزيادة الرسم على الوكالات، من أجل رفع بدل أتعاب الدفاع عن الذين يمنحون المعونة القضائية الذي تدفعه النقابة وتوكّل عنهم خاصة المحامين المتدرّجين.
ويلفت نخلة أيضاً إلى أن النقابة تدرس حالياً مشروع إنشاء معهد للمحاماة على غرار معهد الدروس القضائية، سيكون من شأنه رعاية شؤون المحامين، ولا سيّما المتدرّجين منهم، وتطويرهم وإعدادهم مهنياً.
من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن قوانين تنظيم مهنة المحاماة تُلزم المتدرّج بحضور 45 محاضرة تنظّمها النقابة، و150 جلسة في المحاكم، وذلك خلال سنوات التدرّج الثلاث. وقد تطول المهلة إلى خمس سنوات حداً أقصى. بعد متابعة هذه المحاضرات والجلسات، يتقدم المتدّرج إلى امتحان يسمح له بالحصول على وكالة باسمه الخاص وافتتاح مكتب له إذا أراد ذلك.