إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يستعد الأخ العقيد القائد الرمز معمر القذافي للاحتفال بذكرى الفاتح من سبتمبر، تاريخ توليه السلطة بانقلابه على آل السنوسي قبل أربعة عقود بالتمام والكمال. هو طبعاً «أخٌ» لنظرائه الزعماء ممن يتحكمون بالرقاب والعباد، وإن كان أراده لقباً رسمياً يطلقه عليه مواطنوه تحبباً. و«عقيد» بحكم رتبته العسكرية التي مُنحت له عقب إطاحة الملك إدريس الأول، وتوقف عندها تيمناً بمثله الأعلى حينها، جمال عبد الناصر. أما القيادة فهي للثورة، والمسيرة الخضراء التي فرضها بالحديد والنار، ولتوجهات وحدوية، بدأت عربية الطابع وتحولت إلى أفريقية الهوى.
تبقى صفة الرمز التي يستحقها عن جدارة. رمز لنهج من التسلط والاستبداد أرسى أسساً جديدة لحكم الفرد، سرعان ما تحولت إلى مدرسة جمعت في طياتها قواعد ديكتاتورية الفقراء وقوامها الأمن، وأوتوقراطية الأغنياء القائمة على الريع. مذهب في الفكر السياسي، يمكن تسميته «قذافولوجيا»، فرض نفسه بعدما أثبت قدرته على تثبيت صاحبه في السلطة لفترة تعد من بين الأطول للحكام في العالم. تفوق على «أمير» مكيافيلي. على نازية هتلر وفاشية موسوليني. بل قهر الستالينية الماركسية، والصدامية البعثية وما إلى ذلك من نظريات حبلت بديكتاتوريات، أو بالعكس. زاوج العقائدية المفرطة مع البراغماتية الانتهازية. التسلط المطلق مع النأي بالنفس عن المواقع الرسمية. أما الهدف فيبقى في النهاية واحداً: الـ«أنا». رؤيته لنفسه. ما هي عليه وما يجب أن تكون؛ عميد الحكام العرب، ملك ملوك أفريقيا، وشاهنشاه القارة السمراء، وإمام المسلمين، وأمين القومية العربية (أطلقه عليه عبد الناصر)، والزعيم، وقائد الثورة... لكنه كغيره من الحكام (مثل «الروائي» صدام حسين) يهوى النظر إليه على أنه مفكر وفيلسوف. عبقري من عباقرة الزمان. تشهد على ذلك «مؤلفاته» من كتب خضراء وبيضاء ومتعددة الألوان.
نظريته في آلية الحكم غاية في «الديموقراطية». الشعب يحكم نفسه بنفسه مباشرة، عبر مؤتمرات شعبية. لا برلمان ولا أحزاب ولا نقابات ولا من يحزنون (ولو تمكن لألغى الوزارات). وبالتالي، فإن أي معارضة تنشأ ستكون ضد الشعب وإرادته، والقضاء عليها يصبح واجباً «ديموقراطياً». وهو لذلك أرسل، أوائل ثمانينيات القرن الماضي، فرق اغتيالات لمطاردة المعارضين الليبيين عبر العالم وتصفيتهم. وقد تعامل مع محاولات إطاحته بالطريقة «الديموقراطية» نفسها. أما رؤيته لمبدأ الحكم فتقوم على ما يسميه بـ«الاشتراكية الإسلامية»، محاولة لتطويع الفكر الاشتراكي الاقتصادي «الأجنبي» مع الواقع الاجتماعي المحلي، القائم على التدين الإسلامي. شراكة في الثروة النفطية وتوزيع بعض عائداتها رشى على المواطنين، مغلفة بإيديولوجية إسلامية تعطي الحاكم المشروعية الدينية الضرورية (منع الكحول والقمار على سبيل المثال).
هذا في الداخل. أما في علاقاته الدولية فتلك قصة أخرى؛ بدأ القذافي حياته منذ كان فلاحاً في سرت مشدوهاً بعبد الناصر. أراد الاقتداء به، والحلول مكانه بعد وفاته (1970). سعى مراراً وتكراراً إلى تحقيق الوحدة العربية، مرة عبر محاولة إقامة «الجمهوريات العربية المتحدة» (ليبيا ومصر وسوريا في 1972)، ومرة عبر دمج بلاده مع تونس ــــ بورقيبة (1974). دعم بالسلاح حركات التحرر عبر العالم، من الفيليبين إلى أيرلندا مروراً بسيراليون وليبيريا. أعطاها المال بلا حساب. كما فعل مع وسائل الإعلام في مختلف أنحاء المعمورة. في مقدمة هذه الحركات كانت بلا شك الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها منظمة التحرير. كان في طليعة داعمي القضية الفلسطينية، عندما كانت هذه القضية «ربيحة». ما كان يرضى بغير رمي إسرائيل في البحر. اتهم نظامه بالمشاركة بعملية ميونيخ وتفجير ملهى لابيل في برلين. بل وقف مع إيران الثورة ضد عراق صدام لأنه كان حليفا للـ«استعمار» الأميركي. أدت مواقفه هذه إلى عقوبات وحصار فرض على ليبيا طوال عقد التسعينيات، كان ملف «لوكربي» شرارتها (1988).
في ذلك الحين، انخفضت أسعار النفط وتقلصّت العائدات، وانطلقت مسيرة أوسلو ومشاريع الشرق الأوسط الجديد. شعر بأن الاتجاه السابق ما عاد مربحاً. قرر الانحراف (على الطريقة الجنبلاطية). وافق في 1999 على تسوية تتضمن تسليم المقرحي وفحيمة، وعرض على إدارة كلينتون فتح البرنامج النووي الليبي أمام التفتيش الدولي (وقتها لم يكن الملف النووي يمثّل تهديداً لواشنطن، فتجاهلته). بل أكثر من ذلك. كان القذافي أول زعيم لبلد إسلامي يدين هجمات 11 أيلول، وأصدر مذكرة دولية لاعتقال أسامة بن لادن. ومع سقوط نظام صدام، أعاد القذافي التأكيد على امتلاكه برنامج أسلحة دمار شامل وطالب بمفتشين دوليين لتفكيكه، وهو ما حصل. خطوات أكسبته عودة مظفرة إلى الساحة الدولية، يتوّجها في أيلول بأول زيارة له إلى أميركا. في هذا السياق جاء تفتق عبقريته على نظرية «إسراطين»، أي حل الدولة الواحدة للقضية الفلسطينية. كان قد ترك العالم العربي وهمومه وتوجه نحو القارة السمراء، حيث وجع الرأس أقل.
مذهب جديد في الفكر السياسي أمّن للعقيد الاستمرارية، ويبدو أنه يضمن توريث السلطة إلى أحد أبنائه السبعة الذكور، والأوفر حظاً بينهم هما المعتصم بالله (مستشار الأمن القومي الذي يقود وحدة خاصة به في الجيش. كان قد هرب إلى مصر بعدما خطط للانقلاب على أبيه بدعم منها)، وسيف الإسلام الأكثر شهرة على المستوى الدولي.
هنيئاً للقذافي احتفالاته، ولليبيا وشعبها الصبر والسلوان.