ضحى شمسكونكورد؟ لا أحد يريد الذهاب إلى الكونكورد في هذا الصباح الباكر. ما إن يسمع سائق السرفيس المتمهل لدى محاذاتك، حتى ترتسم الخيبة على وجهه. ما الذي حصل؟ كونكورد يعني الحمرا، خط مغرٍ للسرفيسات لوفرة الركاب عليه ولقرب المنطقة، أي توفير في البنزين ووفرة في العدد. كونكورد؟ أبداً. خمس دقائق، سبع: كونكورد؟ بدأت أُحس بأنني «غلط». يزيد من الإحراج تكرار الكلمة نفسها كل 5 ثوانٍ، لدى توقف كل سرفيس. «كونكورد؟» تبدأ ترنّ في أذني كآلة معطلة معلقة على كلمة خاطئة. تصبح الدقائق أطول فأطول. يصل جنديان، يدخل الأول غرفة الهاتف العمومي، ويبقى الآخر في انتظاره. اتنّبه بعد قليل إلى أنه يرمقني بثبات كأنه وجد كيف يزجي الوقت. يستند إلى السور و«يتفرج» عليّ بكل تهذيب لبناني، كأنه يتفرج على التلفزيون. «كونكورد؟»، ابتسمت قليلاً وقلت أرقّق لهجتي الرسمية. ربما كنت عابسة أيضاً، لكوني استفقت إجبارياً «قبل الضو» على مسجّل جارتي الإثيوبية المستفردة بمنزل مخدومها الموجود في «الويك إند» بالجبل، يبث أغاني تراثية صادحة بالإثيوبي طبعاً. «كونكورد؟» انحنيت مرة أخرى لقولها للسائق. لكني هذه المرة رسمت على وجهي ابتسامة اجتماعية. وبالفعل تغير ردّ فعل السائق، فابتسم بأدب، رافضاً إقلالي. «لا حول الله من أمر الله» قلت في نفسي وقد أخذت أنظر إلى ساعتي ومن طرف خفي، إلى الجندي المزعج الذي كان لا يزال واقفاً وهو يبتسم بخبث. تأخرت. يا الله. ثلث ساعة وأنا واقفة أنتظر مَن يُقلّني من مفرق المستشفى العسكري إلى رأس بيروت. ثلث ساعة وسيارات السرفيس شبه الفارغة والفارغة لا تريد أن تأخذ هذا الراكب. السرفيسات ذاتها التي تشتكي من أنه «ما في ركاب». بالطبع، لا تمرّ باصات الدولة منذ زمن طويل. تركت الحكومات المتعاقبة النقل المشترك العام «يهرّ» وحده. لا أحد في الدولة لديه مصلحة بتعزيز النقل المشترك، فقطّاع طرق النقل العام موجودون في السلطات المتعاقبة وساهرون على مصالحهم المشتركة بإعدام النقل المشترك، بصمت. في أيام كهذه، تحلو فجأة السيارات الخاصة بعيني. وأبدأ بالتحدث إلى نفسي، كما الآن:
ـــــ ألا تظنين أنك تبالغين بعنادك أن لا تشتري سيارة في بيروت؟ يعني منيحة البهدلة هيك؟ ماذا ستفعلين الآن؟ تطلبين تاكسي. وبكرا؟
ثم أردّ على نفسي (مواظبة على قول كلمة كونكورد كلما مرت سيارة):
ـــــ لأ، لن أشتري سيارة. لن أقع في الفخ اللبناني. لا تنقص البلد سيارة.
ـــــ فخ؟ أي فخ. يعني لو كان هناك أوتوبيسات محترمة للدولة، يعني قد تكون مفهومة، لكن لا يوجد. لو عندك سيارة لكنت الآن...
ـــــ (مقاطعة)... عالقة في زحمة السير، مع فارق أني سأكون بسيارتي! أي لا أستطيع تركها بنص الزحمة كما أفعل في السرفيس، إضافة إلى مصاريفها وغلاظة الشوفارية. وحتى لو وصلت بالفعل إلى «الكونكورد» سأتأخر بردو، لأني لن أجد مكاناً للركن في الحمرا.
ـــــ غير صحيح. هناك موقف بإيجار شهري.
ـــــ بخمسين دولاراً؟ لا والله. زائد احتيال جماعة الباركينغ، ولأي ساعة ستبقين؟ وأعطينا المفتاح، ولسنا مسؤولين عن أي شيء. أفف. دخيلك.
لا يزال الجندي «السئيل» واقفاً يتفرج. «كونكورد؟».
ـــــ ثم إن قراري (أُكمل تحدثي لنفسي) بعدم شراء سيارة، من أجل دورة الإنتاج في المجتمع. لن أهرب من مشكلة عامة لهذه الدرجة بحلّ سخيف وفردي مثل هذا. يهرب اللبنانيون من مشاكلهم العامة باعتماد حلول فردية: مولد للتعويض عن تقنين الكهرباء، سيارات بدل النقل العام الغالي والمبهدل، مدارس خاصة بدل الرسمية، أمن خاص لأنهم غير «مأمنين» للدولة، حتى الجنسية اللبنانية، يريد المواطن جنسية أخرى معها حتى «تعاونها». يعني لا ينقص إلا أن يفتح كل منا «بلداً» على حسابه، وقد نصدر باسبورات. بمَ أفادتنا المولدات؟ هل حلّت مشكلة الكهرباء في البلاد؟ هذا مجرد هروب من مسؤولية عامة. إذا عشت المشكلة فساحاول حلها. أكيد هناك غيري يفكرون هكذا، وبهذه الطريقة قد تعود الروح للنقابات، أصبح...
ـــــ خللللللص (صحت بنفسي مقاطعة) صرعتيني!
«كونكورد؟»، الجندي الخبيث ما زال ينظر وقد اتسعت ابتسامته. تابعت حواري الداخلي:
ـــــ لم أشرح لك دورة الإنتاج. فإن دفعت للسرفيس، فسيستطيع أن يشتري من الفران، والفران سيكون معه مصاري ليشتري من الطحّان.
ـــــ (مقاطعة) والطحّان عندو قمحة، والقمحة...
ـــــ تماماً.
«كونكورد؟»، توقف السائق! يا للهول، فوجئت به. أُعيد الكلمة، برقة شديدة هذه المرة، وأنا أنظر في وجهه لأتأكد من قبوله إقلالي. وإذا به يصيح على طريقة الثقيلي السمع: «وين؟». الجندي لا يزال يبتسم. أرفع صوتي محرجة بالكلمة ذاتها «كونكورد؟». ها هو قد سمع. يعضّ على شفته العليا وهو ينظر أمامه ملياً، كمن يعمل التفكير في قرار شجاع عليه اتخاذه الآن، ثم ينظر إليّ رافعاً حاجبيه بالنفي وينطلق!
«ما إلك غيرو»، يقول الجندي مقرراً التحدث إليّ. أنظر إليه بتعالٍ للتعبير عن الانزعاج، فيشير بعينيه الساخرتين إلى الرصيف المقابل، حيث كان أحد «جوكيّة» سباق الخيل المقابل يجرّ برسن طويل خلفه حصاناً رشيقاً في نزهته الصباحية.