دير مار موسى الحبشي في النبك بات اليوم من أهم المراكز الدينية والسياحية في سوريا بعد عملية ترميم وتأهيل دامت أكثر من 10 سنوات. الدير الذي كان مزرعة للرعاة كان يخبّئ بين جدرانه جداريات تعود إلى فترة القرون الوسطى، وأعطت آفاقاً جديدة لدراسات تاريخ الفن البيزنطي. الدير يبرز الآن كمركز لحوار الأديان
النبك ــ همام كدر
بقي دير مار موسى الحبشي في النبك (سوريا) مقصداً لرعاة الأغنام لأكثر من 500 سنة. فهذا المعلم التاريخي المبنيّ بطريقة تتداخل طبيعياً مع سلسلة جبال القلمون كان مركزاً دينياً مهماً في القرون الوسطى، ثم هجره الرهبان والنسّاك فغاب في النسيان حتى صيف 1982. ففي تلك الأيام الحارة، وصل الشام المستشرق الشاب باولو اليسوعي محمّلاً بشغفه لحكايات الشرق القديمة، وبعد دراسته للأدب العربي في دمشق، اتجه إلى الدير طالباً قضاء عشرة أيام لخلوة روحية مثّلت الحجر الأساس في تاريخ الدير المهجور وفي حياة الشاب الذي كرّس وقته لإعادة الحياة إلى الدير. ففي صيف 1984 بدأ المستشرق باولو عملية ترميم الدير وتأهيله بالتعاون مع البعثة الإيطالية السورية والفاتيكان، وقد تطوّع الكثيرون من الشبيبة للإسهام في أعمال الترميم التي استمرت حتى صيف 1991. ومن بعدها تسلّم الأب باولو زمام الأمور وقرر العمل مع الشّماس الحلبيّ يعقوب مراد لإعادة الحياة الرهبانية إلى هذا القفر واستقطاب الزوار والسياح والحجاج.
زيارة الدير تعيدك إلى قرون مضت. فبلدة النبك، التي تقع 80 كلم شمالي العاصمة السورية دمشق، لا تزال تحافظ على طابعها الجبلي القديم حينما كان الإنسان البدائي يعتاش من منتج الحيوانات والأرض. أساسات الدير بحسب الدراسات التاريخية تعود إلى الفترة الرومانية، وكان وقتها برجاً عسكرياً يشرف على طريق حمص ـــــ تدمر. ومع انتشار الديانة المسيحية، يقال بحسب الأساطير إن مكان الدير كان مسكنَ الأمير موسى ابن ملك الحبشة الذي أتى إلى هذا المكان النائي هرباً من بطش أبيه بعد مروره بمناطق عدّة. لكن جند أبيه عثروا عليه وقتلته سهامهم. الكنسية التي تقع في قمة الدير هي محور الحكاية بسبب أهميتها التاريخية وقيمة الجداريات التي لا تقدّر بثمن بسبب ندرتها.
لو رُصدت مبالغ لتأهيل المواقع كما لترميم البيوت التراثية، لأصبحت عيتا الشعب «قدوة ومثلاً»
فالرسوم التي تزين جدران الكنيسة تعود إلى فترة القرون الوسطى وتتبع الأسلوب الفني البيزنطي، وهي من عمل رسامين محليين. الطبقة الأولى تعود إلى تاريخ إنشاء الكنيسة وفيها لوحة مار الياس الحي فيما لوحة الدينونة الواقعة في صدر الكنيسة في أحسن حال. تجدر الإشارة إلى أن «اكتشاف» جداريات مار موسى الحبشي خلال عمليات الترميم غيّر وجهة الدراسات العلمية المتخصصة بالفن البيزنطي. فحتى الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن العلماء مدركين أن الفن البيزنطي منتشر في جبال سوريا، ولم يكونوا يعرفون أن تلك الرسوم من صنع رسامين محليين اتبعوا الأسلوب البيزنطي ولكنهم أنهوا الجداريات بحسب قدراتهم الفنية. فأتت النتيجة ولادة فن جديد في أطراف الإمبراطورية.
ولأن للدير «تقاليده الفنية» الخاصة به، يمكن اعتبار إضافة الآية الافتتاحية «بسم الله الرحمن الرحيم» الموجودة عند مدخل الكنيسة بمثابة تأكيد على الانطباع الذي اتجه إليه الدير منذ ترميمه. فالرهبان يرون أن الآية افتتاحية دينية لجميع الطوائف، وهم كرّسوا رسالة المكان الأساسية بمكان لقاء لتعميق وتقدير خصوصياتِ الهويّات الثقافيّة والدينية لا لنسيانها.
ويتحدث الراهب بطرس عبو وهو يعيش هنا منذ أكثر من 10 أعوام عن رسالة الدير فيقول: «اخترت الحياة في هذا الدير من 12 عاماً بعدما تطوعت للعمل هنا. وأستطيع الآن أن اختصر رسائل الدير بكلمات قليلة: الضيافة الإبراهيمية، والتأمل والعمل اليدوي وتفاهم الأديان، حيث يؤمّ هذا الدير أشخاص من جنسيات وأديان متعددة يشاركوننا حياتنا اليومية ونشاركهم ثقافتهم والحوار معهم».
أبواب الدير مفتوحة للجميع، تلك ببساطة أهم فلسفات الدير فهو يستوعب حوالى 200 كمقيمين وحوالى 1000 زائر، والجنسيات هنا متعددة وإن كان أغلبها أوروبي.
أحدث القائمون على الدير معملاً للجبن يعتمد اعتماداً رئيسياً على الحليب من الغنم الذي يربّى في الدير، فقد أُعلن الدير محمية طبيعية منذ سنوات، ومادياً يعتمد الدير على شقّين. ويقول الأب ميشيل طعمة دخْل الدير الأولي يأتي من التبرعات الداخلية والخارجية، والثاني يأتي من العمل اليدوي الذي ينجزه الرهبان.
تعمل الجماعة المسيحية في دير مار موسى الحبشيّ على تدعيم الوحدة بين الكنائس، دون أن تفقد انتماءها السرياني أو الكاثوليكي، وكم من جهة ثانية رسمت لنفسها أُفقاً جديداً وهو العلاقة بين الإسلام والمسيحية. هذا الأفق جزء من الدعوة الروحية لرهبان وراهبات دير مار موسى الذي تبرزه لوحة تجمع كلمتي «يسوع والله أكبر». وقد اعتاد خالد (سويدي من أصل سوري) أن يأتي كل صيف من المغترب ليشارك في «الرياضة الروحية» في دير مار موسى الحبشي، على الرغم من أن خالد شابّ مسلم إلا أنه لم يجد أي صعوبة في التأقلم والانخراط مع حياة الدير دون أن يتخلّى طبعاً عن دينه.
ويحاول الدير أن يحدد لنفسه مكاناً عالمياً كمركز للصلاة والدراسات، فقد أنشأ الرهبان مكتبة مختصة لخدمة الباحثين والمدرّسين في ميدان حوار الأديان. ويتميز رهبان دير مار موسى بتعمقهم في دراسة فكر الباحث الكبير في العلوم الإسلاميّة والتصوّف لويس ماسينيون، الذي يعد منبع إلهام لجماعة الدير، بسبب التزامه الفكري وأسلوب حياته كتلميذ للمسيح.