سعد الله مزرعاني *أثارت كلمة رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي في الجمعية العمومية الاستثنائية لحزبه في الثاني من الجاري، انفعالات متنوّعة. منها تلك التي رأت في كلام وليد بك «عودة إلى زمن الحركة الوطنية». كنت، شخصياً، ممّن تلقّوا اتصالات عديدة في هذا الاتجاه. معظم هذه الاتصالات ألحّ على ضرورة «التحرّك السريع» لتلقّف التحوّل الجنبلاطي وتوظيفه. هذا البعض كان يتذمّر من مجرّد بعض التحفّظات التي أبديتها، ويصرّ على أنّ الظرف مؤات للخروج من «الأزمة». واليوم، بعد مرور دزينة أيام على كلام جنبلاط، بات من الممكن تناول الموضوع بشيء من البرودة والعقلانية، بعيداً عن انفعالات الوهلة الأولى، التي توزّعت بين الأقصيين: القبول غير المشروط أو الرفض المعاند وغير المساوم!
لا يغيّر هذا التناول هنا شيئاً ممّا كنا قد أشرنا إليه سابقاً، من أنّ التحوّل الجنبلاطي كبير وحقيقي وذو طابع تاريخي. يتصل ذلك بالدرجة الأولى، بسبب هذا التحوّل والقائم في متغيّرات المنطقة وأبرزها «إخفاقات» مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الأميركي. وبالدرجة الثانية، يتصل بنتائج هذا التحوّل، التي هي الآن، وستكون غداً، ذات تأثير كبير وأساسي على الوضع في لبنان، وخصوصاً على توازناته ما بين فريقي الثامن والرابع عشر من آذار وما بينهما...

لحنبلاط تجربة جبهوية يمينية لا يسارية. في الأولى كان مبادراً وناشطاً، أما في الثانية فمارس دور التفكيك

نبدأ من تأكيد حقيقة قد تكون صادمة بالنسبة للبعض: لم تكن للأستاذ وليد جنبلاط تجربة حقيقية في مجال العمل الجبهوي اليساري. لقد «ورث» في ما ورث بعد اغتيال والده القائد الشهيد كمال جنبلاط، منصباً هو منصب «رئيس المجلس السياسي» لـ«الحركة الوطنية اللبنانية». ومنذ اللحظة الأولى، شعر وأشْعَر كلّ مَن كان على صلة به أنّه مكرَه على شغل هذا المنصب لا مختار. وفي خلال بضع سنوات، تعاظم تبرّمه بالموقع الجبهوي هذا منمّياً خياراً انكفائيّاً إلى حدود الطائفة الدرزية، أي العودة إلى الموقع التقليدي الذي كان قد خرج عليه (دون أن يخرج منه) والده آنذاك رافعاً شعار إصلاح النظام السياسي اللبناني بإلغاء الطائفية منه. وبند إلغاء الطائفية السياسية كان البند الأبرز الذي انعقد من حوله الإطار الجبهوي لـ«الحركة الوطنية اللبنانية»، فضلاً عن تبنّي التوجّهات التحرّرية على المستوى العربي وإقامة علاقة الصداقة على المستوى الدولي مع الاتحاد السوفياتي وحلفائه على امتداد العالم.
كشف العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، هشاشة البنيان الجبهوي لـ«الحركة الوطنية». سريعاً، جرى أيضاً الإعلان عن حلّ مؤسّسات هذه الحركة: مجلسها السياسي المركزي والمجالس الفرعية في المناطق... فعل المقاومة التاريخي اجترحته وتحمّلت أعباءه أطراف في «الحركة الوطنية»، لكن من خارج البنيان الجبهوي.
ما حصل من تعاون جمع الحزب التقدّمي الاشتراكي وسواه من قوى «الحركة الوطنية» وسواها جاء في سياق كانت تتنامى معه العوامل الطائفية والمذهبية على حساب التعاون السياسي الجبهوي الذي شهدته المرحلة الذهبية حين كان القائد كمال جنبلاط يُمسك بسدّة القيادة أو الريادة في الحياة السياسية اللبنانية، التقليدية والحديثة على حدّ سواء.
ورغم ذلك، فإنّ هذه الحقيقة التي أشرنا إليها لم تكن من النوع الذي يمنع وليد جنبلاط من أن ينسب لنفسه دوراً جبهوياً. فتداخل الوقائع والأحداث بين المراحل والمحطات تقترن أيضاً بتداخل الأدوار بين الأفراد والمؤسسات السياسية والحزبية والطائفية. وهكذا يصبح ممكناً القول في امتداد الوراثة أو بسبب «وحدة التاريخ العائلي»، وخصوصاً في بعدها التواصلي الإقطاعي، إنّ تجربة الوالد، هي أيضاً تجربة الوارث والحزب، بل تجربة الطائفة الدرزية أيضاً. لمع نجم وليد جنبلاط في سنوات ما بعد الـ82. تحوّل إلى أحد «أمراء الحرب». امتلك ميليشيا فعّالة. خاض معارك مهمة كان من أبرزها المساهمة في إسقاط اتفاق السابع عشر من أيار الذي فرضته إسرائيل على لبنان لتحويله محميّة إسرائيلية. قطع رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي مع العمل الجبهوي الديموقراطي واليساري طيلة المرحلة الممتدة حتى عام 2005. أشكال التعاون والتحالفات التي أقامها كانت في نطاق المحاصصة وتقاسم النفوذ في كنف الإدارة السورية للبلاد. لكنّ الأمر اختلف بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري وبعد الاهتمام الأميركي بالوضع في لبنان في امتداد تداعيات «مشروع الشرق الأوسط الجديد» أو الكبير: لقد لعب وليد جنبلاط الدور الأبرز في قيام حلف 14 آذار. وهذا الحلف تحوّل تدريجيّاً، وبجهود مثابرة ومحورية من وليد بك، جبهة حقيقية لعبت دوراً مؤثّراً في تطوّرات الوضع في لبنان حتى السابع من أيار عام 2008.
في سجلّ وليد بك، إذاً، تجربة جبهوية في الجبهة اليمينية لا اليسارية. ففي الأولى كان مبادراً إلى الفعل والنشاط والبناء، أما في الثانية السابقة فقد مارس، فعليّاً، دور التخلي والتفكيك (موضوعيّاً ستؤدّي مواقفه في الثاني من آب الجاري إلى النتيجة نفسها حيال جبهة أو حلف 14 آذار اليمينية).
موقع اليسار بالنسبة لرئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، ليس قائماً في صلب سياساته وتوجهاته وعلاقاته وحتى مزاجه الشخصي. إنّه «نكهة» لا بأس من إضافتها وميزة لا ضير من الاتّصاف بها، شرط ألا تترتّب على ذلك أيّ التزامات حقيقية وجدية (في مقابل ذلك، جاهر وليد بك بأنّه، حسب تعبيره هو نفسه، أحد حيتان المال والثروة في لبنان).
ومع ذلك، فقد استعاد رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي في 2 آب، بامتياز، سيرة اليسار في لبنان... وهو دغدغ آمال أولئك الذين همّشهم الشكل الحالي من الصراع السياسي في لبنان. لكنّ الأمر لا يعدّ استئنافاً لدور انقطع لأنّ هذا الدور لم يكن قائماً في الأساس. إن ما حصل في 2 آب لا مفاعيل جبهوية على مستوى اليسار له. إنّه شكل أو صيغة من أشكال وصيغ المناورة السياسية الحية والمتحرّكة والمفاجئة التي اعتادها وليد بك. وهذا لا يقلّل أبداً من أهمية الانقلاب الجنبلاطي في مجال التوازنات السياسية القائمة بين جبهتي الانقسام في لبنان. كذلك يجب عدم التقليل من أهمية التحوّل الجنبلاطي، مثلاً، على الحزب الشيوعي اللبناني. فهذا الحزب قد عانى أكثر من سواه من الضغوط الجنبلاطية. ولقد أدّى ذلك، كما هو معروف، إلى التأثير على مواقع عدد من قادة الحزب وكادراته، وخصوصاً في منطقة الجبل، حيث اندفع هؤلاء مع «الحليف التاريخي»، إلى تبنّي سياساته وتحالفاته وممارساته نفسها دون أدنى تمايز أو تساؤل!؟ (ماذا يفعلون الآن وقد فاجأهم وليد بك ربّما أكثر من سواهم؟).
يتذرّع وليد بك (جزئياً أو شكليّاً) بماضيه اليساري، من أجل الابتعاد عن التزاماته وتحالفاته اليمينية الراهنة في المستويين الدولي والمحلي (دون العربي). لكنّ ذلك لن يدفعه أبداً إلى خيار لم يقتنع به يوماً: أن يكون في اليسار، وأن ينمّي من أجل ذلك توجهات ومبادرات ومشروعاً...
ويكون على الذين علّقوا آمالاً سريعة، بل متسرّعة على التحوّل الجنبلاطي، أن يخرجوا من هذه الآمال، بل من هذه الأوهام إلى الوقائع والحقائق. نعني بذلك أن يجري التفتيش عن عناصر المشروع والبناء (الإطار) الجبهوي، اليساري (الديموقراطي والوطني بالضرورة)، في مكان آخر غير ما يمتلكه رئيس «اللقاء الديموقراطي» في جعبته من وسائل المناورة والتأثير، وما يطلقه في مواقفه من العناوين والشعارات...
البناء الجبهوي الوطني حاجة تبرز صفتها الإنقاذية، اليوم، بمقدار ما تقترب أو تنضج عناصرها المساعدة على النشوء وسط أزمة متمادية، بل مستعصية تعانيها البلاد بسبب عقم المشاريع المتنافسة على ساحتنا السياسية منذ الاستقلال حتى اليوم.
إنجازات اللبنانيين في حقلي المقاومة والديموقراطية تبدو يتيمة ما لم تقترن بإنجاز كبير في حقل بناء دولة موحّدة وحصينة ومتماسكة وسيّدة. التعويل هنا على أصحاب المصلحة، وهم الأكثرية من اللبنانيين.
حبّذا لو يفاجئنا وليد بك في هذا المضمار أيضاً!
* كاتب وسياسي لبناني