روايات كثيرة تنسج حول الفقراء واحتياجاتهم في لبنان. تقارير البنك الدولي وبرامج الأمم المتحدة المصنفة «إنمائية»، تزخر بالأرقام والتوقعات والافتراضات «العلمية». لكن روايات الفقراء الذين يجدون في موائد الرحمن في شهر رمضان ملجأهم إلى القوت اليومي، أبلغ من كل الأرقام. هناك، تروي العيون الشاخصة إلى موعد الإفطار حكايات الحياة اليومية في رمضان، وما بعد بعد رمضان
بسام القنطار
كان محمد إبراهيم (69 عاماً) يعجل في خطواته سالكاً الطريق الفرعية قرب حديقة الصنائع متجهاً إلى جامع عائشة بكار، حيث يقيم المركز الإسلامي الإفطار الرمضاني الخيري.
أمضى محمد يومه الطويل متسولاً في شارع الحمراء، واختار أن يقصد الطابق الأرضي في الجامع، حيث تعد يومياً موائد الرحمن للفقراء، بدلاً من مركز توفيق طبارة القريب منه، حيث تعد أيضاً مائدة يومية لـ260 صائماً، طيلة شهر رمضان، أما السبب؟ فكما قال لـ«الأخبار» «ما بحب اطلع عالطابق التاسع»!
يضحك محمد عندما تسأله كيف أمضى يومه الرمضاني؟ فالمارة يجودون عليه ببعض المال، عكس بقية الأشهر التي يقل فيها الدخل، و«الشهر» يلهم العديد من الناس التفكير بغيرهم. لكن غلة اليوم تكون دائماً عرضة للهدر إذا نجحت دورية مكافحة التسول في اقتياده إلى المخفر، كما حصل معه منذ أسبوعين، حيث دفع ضبطاً بقيمة خمسين ألف ليرة لبنانية، لمخالفة التسول.
في الطابق الأرضي في مركز توفيق طبارة، يصطف مئات الفقراء في خط طويل بانتظار أن يقوم المكلفون بالتنظيم بترتيب صعودهم إلى الطابقين التاسع والعاشر في مصاعد المبنى. هناك، تنظم موائد الرحمن، كتقليد سنوي منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاماً، «وهي ليست محصورة بشهر رمضان، بل هناك منها كل نهار جمعة بعد صلاة الظهر، لكن في رمضان تصبح المائدة يومية، ويتبرع بتكاليفها عدد من المحسنين الذين لا يحبون أن يكشفوا هويتهم»، بحسب محمد علي طبارة الذي يتولى تنظيم الوافدين وإرشادهم إلى مقاعدهم. أحياناً كثيرة يفيض العدد عن الأماكن المتوافرة، ولكن المركز حلّها: الذي لا يستطيع حجز مقعد له حول الطاولات، يُسكب له الطعام «ع الواقف» عند الدرج أو حتى في الطابق الأرضي.
ليال (18 عاماً) تأتي كل سنة إلى المركز مع بقية أفراد أسرتها البالغة خمسة أشخاص. الضحكة لا تفارق وجه الصبية التي تتمنى أن تتزوج وأن يكون لديها بيتها المستقل. تتراجع ليال عن جوابها عن عدد الأولاد الذين تنوي إنجابهم، من ستة إلى أربعة وصولاً إلى ولد واحد، كي لا تقع في مأساة والدها الذي لا يستطيع إطعام بقية إخوتها. ثم تعود فتتراجع مجدداً: «القصة مش بإيدي. يمكن زوجي بدو أكتر». تسأل ليال قبل أن تعود مسرعة إلى مكانها خوفاً من أن يضيع عليها الكرسي الذي انطلقت من أجله منذ الساعة الرابعة من برج البراجنة حيث تقيم.
محمود أحمد بدر، الذي يسكن في منطقة الظريف المجاورة للمركز. كان يعمل سائق تاكسي قبل أن يطرد من عمله. يعيش محمود على 5 آلاف ليرة لبنانية، أو أقل، في اليوم. ويجد في الإفطار المجاني ملاذاً لعائلته التي يضطر أحياناً لأن يأتيها بكيلو برغل ليسلق مع الطماطم ويقدم على مائدة المنزل. «هنا كل شي موجود. الشوربة والسلطة والطبق الرئيسي دجاج ولحمة. أنا لا أستطيع أن أبتاع كل هذه الأصناف». يقول محمد بثقة وبغصة يصعب جداً أن نتخيل ماذا تعني. لا يخاف محمود من تأمين الطعام لعائلته. «الله لا يترك جائعاً»، يقول، لكنه خائف من مباغتة المرض له حين يتقدم به العمر.
يعتب محمود على الساسة والجمعيات الذين نضبت تقديماتهم «في السابق كانوا يقدمون كرتونة كبيرة أما اليوم فيعطوننا كيس سكر وكيس طحين».
وفاء حمادة التي تقيم مع عائلتها في حي فرحات في مخيم شاتيلا، لم تبدُ معنية برواية قصتها، عندما تعلم أن السائل «من جماعة الصحافة». لكنها لا تتردد في السؤال: «هل تعرف جهة تقدم منحاً مدرسية؟ ابنة سلفي شاطرة وبدي علمها». وتهمس: «أنا زوجي شيعي وما بيعطوني. بس هي أبوها سني، فيك تدبّرها؟».
في المكان أشخاص كثر مثل وفاء. يسألون عن المساعدات. عن المنح المدرسية. عن المساعدات المرضية. عن كرتونة الإعاشة المنتظرة. وعن الواسطة التي باتت صعبة بعد الانتخابات. «يا ريت رمضان حل قبل الانتخابات»، تقول وفاء.
على عكس وفاء لا يسأل مختار بيروت في الستينيات، محمد صيداني، عن المساعدات. بل يغرق في الحديث عن تاريخ بيروت، وعن القبضايات ورياض الصلح وبشارة الخوري. لا ينتظر صيداني المساعدات، لكن أن يأتي إلى مائدة رمضان المجانية فهذا يعني أن نهاية حياة مختار ليست بالضرورة كبدايتها.
إلى الطاولة المجاورة تجلس فائزة عجي. هي تعمل في أحد المصارف. تبتسم فائزة للأسئلة ولا تزعجها. هي المرة الأولى التي تأتي فيها إلى المركز. وهي راضية عن لائحة الطعام، وتجزم بأنها ستعيد الكرة. لكنها بالتأكيد تحتاج بعض الوقت لكي تنخرط أكثر في المكان، الذي يجمع أشخاصاً يعرف بعضهم وجوه بعض ويلتقون ثلاثين مرة كل عام، عدد ليالي رمضان، منذ ما يزيد عن عشرة أعوام.
كثيراً ما تتشابه قصص هذه العائلات الفقيرة. لكن بعضها مفاجئ وفيها شيء من الإلهام. فنتعلم من سعيد البوتاري البيروتي الذي يقطن مدينته بمصروف أربعة آلاف ليرة يومياً. فهو مقيم في نزل غير شرعي بالقرب من الوسط التجاري. سعيد كان حرفياً في زمن بيروت القديمة، صنعته كانت صناعة إبر لما سماه «دبابير» (أي بوابير) الكاز. انقرضت مهنته منذ زمن طويل. يقول: «كنت أعرف أنني سأفقر لذلك لم أتزوج. تخيل لو كان لدي عائلة كيف كنت سأقيم في بيروت؟» ويضيف: «أنام في الغرفة مع 15 إلى 20 شخصاً حسب الازدحام؟ المكان لا يليق بعائلة. أما لرجل سبعيني كان يعتاش من صناعة إبر دبابير الكاز فلا تبدو مستحيلة. يُخرج سعيد بطاقة هويته ليثبت أنه ابن بيروت الذي يعيش على بعض المساعدات من أشقائه ويلجأ لتدابير مالية خاصة، مثل وضع أمواله في المصرف، والعمل في تنظيف المطاعم مقابل الحصول على طعام الغداء. والإقلاع عن التدخين لأسباب صحية ومالية. «أحارب الفقر على طريقتي» يختم البوتاري مبتسماً.


بالإشارة نفهم