سعد الله مزرعانيكريم مروّة» يوم السبت الماضي (الأخبار 24/10/2009) أطلق الزميل والصديق أسعد أبو خليل مجموعة أحكام بشأن الحزب الشيوعي اللبناني، تعوزها، أحياناً، الموضوعية، فالدقة وصحة الاستنتاجات. ورغم ما يتمتّع به أبو خليل من سعة المتابعة والاطلاع، إلا أنّه كرّر هنا، على نحو مفرط هذه المرّة، أخطاءً في تقدير السياسات والمراحل والأدوار المتعلقة، خصوصاً، بفترة السبعينيات والثمانينيات من تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني.بدايةً، لقد أسقط الكاتب انتقاده للأستاذ كريم مروّة على مجمل سياسات الحزب الشيوعي ومواقفه وعلاقاته، فإذا هذا الحزب «في الحقبة الشاوية الحاوية لم يعرف حياءً في درجة الارتهان الذيلي لموسكو»!
لن نناقش هنا مقتطفات وجزئيات جاء بها الكاتب من وثائق حزبية أو من كتب ألّفها معارضون أو أصدقاء. نناقش السياق العام لهذه المقتطفات التي نزعم أنّه قد فات الكاتب، على نحو لا يتفق مع ما ينبغي أن يتوافر في نصّه من شمولية المتابعة وصوابية الأحكام.
في الفترة المذكورة، يعرف كلّ المهتمّين وجلّهم أحياء يُرزقون، أنّ أزمة كبيرة قد اندلعت في أواسط الستينيات ما بين القيادة السوفياتية ومجموعة الرفاق الشباب (آنذاك) الذين اعترضوا على نهج قيادة الحزب الشيوعي التي كانت تعمل تحت تأثير سياسات الأمين العام للحزب الشيوعي السوري واللبناني ونفوذه (حتى عام 1964) المرحوم خالد بكداش. ولم تكن الأزمة تلك مجرّد صراع على المراكز والمواقع الحزبية. لقد اتّخذت طابعاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً واضحاً وجذرياً (نسبياً) قياساً على ما كان قائماً ومعتمداً من سياسات وتوجّهات من قيادة الحزب الشيوعي في تلك المرحلة. رافق ذلك تدخّل سوفياتي واضح وفجّ وخطير ضدّ التغيير الذي رفع لواءه فريق الشباب آنذاك. ووصل الأمر حدّ توجيه اتهامات كان أقساها ضدّ الشهيد جورج حاوي. واستدعى الأمر موافقته وفريقه على ابتعاده أو إبعاده منعاً لاستخدام التهمة الملفّقة ضدّه في إعاقة النقاش الفكري والسياسي والتنظيمي، الذي كان هو أساس حركة التغيير. ولقد تجسّدت نتائج هذه المعركة في المؤتمر الثاني عام 1968 الذي اكتسب تاريخية ما، بسبب ما سبقه من تحضيرات وما رافقه من صراعات محلية و«أممية»، وما أفضى إليه من النتائج والتغييرات.
لقد انطوى تقرير ذلك المؤتمر (25 عاماً من النضال)، على مراجعة ونقد وتقويم تناول أخطاءً في الموضوع الفلسطيني خصوصاً، وفي القضية القومية عموماً. وكان النصّ ينتقد ما وصفه بـ«التبنّي الكامل للسياسة السوفياتية بشأن قرار التقسيم عام 1949»... إلى صياغات جديدة ومختلفة بالكامل، بشأن موقع القضية القومية في الصراع وفي العملية التحرّرية، حيث يتجلّى فيها الصراع الطبقي على أوسع نطاق. ولقد استند هنا إلى مقولة لينين عن «الشعوب المضطهدة» التي يجب أن تتوحّد مع «عمال العالم» الذين دعاهم ماركس وإنجلز إلى التوحّد على الصعيد العالمي، في النضال ضدّ البرجوازية ونظامها الرأسمالي.
لم يكن الصديق أبو خليل بحاجة إلى التفتيش عن وقائع تلك المرحلة في النصوص، كما فعل عن حق (إلى حدّ كبير) بشأن نقد مروّة. فهو، كما معظم جيلنا اليساري، قد عايشها وكان شاهداً عليها. ومع ذلك فقط «تحزّب» بشأن دور الحزب الشيوعي في إطلاق المقاومة وإنشائها ضدّ العدو الصهيوني الغازي عام 1982. ودون التقليل من أدوار الآخرين، يمكن القول موضوعياً وبصفاء، إنّ قيادة الحزب الشيوعي آنذاك (وأنا هنا شاهد وشريك) كانت المبادرة في إطلاق جبهة المقاومة ضدّ العدو. ولقد نهض أعضاء الحزب الشيوعي وجمهوره وأصدقاؤه بالعبء الأوّل للمواجهة. ولا يقلّل ذلك أبداً من بطولات وتضحيات قوى أخرى شريكة في عملية تأسيس الجبهة (منظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي والتنظيم الشعبي الناصري)، أو مشاركة في مواجهة العدو كالحزب السوري القومي الاجتماعي وسواه...
أزمة كبيرة اندلعت في أواسط الستينيات ما بين القيادة السوفياتية ومجموعة «الرفاق الشباب»
المهم هنا أن نذكر أنّ ما اعترف به الكاتب (مكرهاً، كما بدا من خلال السياق!) للحزب الشيوعي بإنشاء جبهة المقاومة ضدّ إسرائيل، قد مثّل امتداداً للمؤتمر الثاني عام 1968، ولمحاولات متلاحقة لإنشاء ميليشيا شعبية (لبنانية: الحرس الشعبي) أو شيوعية عربية (قوات الأنصار) ضدّ العدو الإسرائيلي (منذ أواسط السبعينيات).
أما في موضوع «الذيلية» لكلّ من موسكو والشهيد ياسر عرفات، فالمسألة ــــ رغم ما ذكرناه من خلاف بين فريق الشباب في الحزب الشيوعي الذي فرض انعقاد المؤتمر الثاني عام 1968 ــــ لا يمكن التعامل معها خارج عناوين موضوعية كانت قائمة في تلك المرحلة. لقد قام أساساً مفهوم «الأممية» على تكوين قيادة واحدة «عمال العالم» و«الشعوب المضطهدة». لقد أسّس لينين الأممية الأولى. وكانت مشروعاً ثورياً وكفاحياً وصيغة علاقة وتنظيم وفكر في آن. الانحرافات حدثت لاحقاً في تحوّل الثورة إلى دولة والحزب الطليعي (السوفياتي) إلى مركز قرار يُلحِق به الرفاق الآخرين... هذا بالإضافة إلى الدعم السوفياتي، وهو أمر بُنيت عليه علاقات وثيقة بين الحزب الشيوعي السوفياتي والعديد من الأحزاب والأنظمة العربية، لا الشيوعية فقط.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثورة الفلسطينية. تحفل أدبيات الحزب الشيوعي وكتابات قياداته بالتذمّر من «التجاوزات الفلسطينية». وهي في تلك الأدبيات لم تكن تجاوزات أمنية فقط. لكنّ الإنصاف يقتضي القول إنّ الحزب الشيوعي قد انطلق في علاقته بالثورة الفلسطينية من موقع مبدئي (وعقدة ذنب) حيال القضية ومشاركته في الدفاع عنها وحمْل لوائها. وفي مجرى ذلك نشأ بعض أنماط العلاقات الخاطئة سياسياً وأمنياً. وحده الحزب كان يشير إلى ضرورة التفاعل بين القضيتين الوطنيتين في كلّ من لبنان وفلسطين. لكنّه قد غلّب، عن قصد، موضوع التضامن مع القضية، على نقد أخطاء الثورة.
والديموقراطية في الحزب كانت نسبية أيضاً. وهي بدأت من مراعاة «ظروف لبنان وتعلّق شعبه بالحرية والديموقراطية»، مروراً بالشراكة في تحقيق «الحكم الوطني الديموقراطي» (برنامج المؤتمر الثاني)، وصولاً إلى انتقاد قاس لتجربة بكداش، انتهاءً بإقرار التنوّع والتعدّد في ظلّ الاشتراكية. ولقد عرفت حياة الحزب الداخلية شيئاً من هذه الديموقراطية. وكانت هذه خطوة إلى الأمام قياساً على ما سبق، وليس مقارنة بما كان ولا يزال مطلوباً، تحت عنوان الديموقراطية، حتى يومنا هذا الذي لن يبلغه أحد في ما بقي لنا من العمر، على الأقل!
في مقالة أبو خليل الكثير من العناوين. لا يتّسع المجال هنا لتناولها. وهي عناوين مهمة في التأريخ لمرحلة وليس فقط لنشاط ومساهمات حزب بعينه أو شخص أو أكثر. وأودّ أن أختم بأنّ ما أكتبه الآن، لم يكن بدافع «العصبية الحزبية» التي يعتمدها البعض سبيلاً وحيداً للتعامل مع الأحداث القريبة أو البعيدة أو المستقبلية. ما كتبته هو أقرب إلى شهادة عاشها جيلنا أو عايشها. وهي أقرب إلى معاناة ومكابدة ومساهمة اتّسمت، عموماً، بطابع إيجابي. وفي مجريات هذه المرحلة حصلت نجاحات و«ابتكارات» وأخطاء، كما كانت غنيّة بالتعقيدات الموضوعية (حروب غزو وحرب أهلية وتبدّلات وانعطافات جذرية إقليمية ودولية). ويقتضي التقويم الموضوعي رؤية العوامل المعيقة كما التقصيرات الذاتية التي تراكمت، ومنعت تجديد الحزب الشيوعي والأحزاب المشابهة ونهوض دورها، رغم أنّ الحزب الشيوعي كما أعتقد، يمتلك من العوامل الخاصة، ما كان يمكّنه من الاستمرار بعد الانهيار السوفياتي، وأن يكون استمراره عامل تجديد للمشروع اليساري أو الوطني اللبناني، إنقاذاً للبنان من حمأة التقاسم والانقسام والتقسيم! تلك مسألة مفصلية في الحكم على الحزب الشيوعي في حاضره ومستقبله على حدّ سواء.
* كاتب وسياسي لبناني