على الرغم من التطوّر التكنولوجي وعولمة المحاصيل، إلا أنه يبقى لبعض المحاصيل بلاد تشتهر دون غيرها بإنتاجها. في تلك البلاد، لا تتم العملية الإنتاجية على يد أبناء البلد، بل يقوم بها مزارعون يستقدمون من الخارج
عمر سعيد
تشتهر أغوار الأردن بزراعة البندورة، أما لبنان، فمشهور بإنتاج البطاطا والخضار ومختلف أنواع الفاكهة، لا سيما التفاح.
إلا أن إنتاج هذه المحاصيل يتم على يد عمال لا ينتمون إلى البلد الذي يشتهر بإنتاجه، فمثلاً، البندورة الأردنية يزرعها عمال مصريون. أما المنتجات اللبنانية، فكثير منها تزرعها وتحصدها عمالة سورية. في المقابل، يتناول مئات الآلاف، وربما ملايين من البشر المنتجات الزراعية، من دون أن يكونوا على علم بجنسية زارعيها، ولا في أي ظروف غُرست جذورها وجرت رعايتها وقطافها، بل يتغنون فقط بأنها «لبنانية 100%».
تكفي زيارة قصيرة لسهل البقاع لتتضح الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للعمالة الزراعية. خليط متنوع من أكثر أشكال الاستعباد تعسفاً. مريم، أم عذاب، عاملة سورية من حلب، تحدّد رحلتها هي وابنتها من حلب وإليها بعد انتهاء الموسم. تبدأ الرحلة بنقلهم بسيارة «بيك أب» تضم حوالى 20 شغيلاً. والذي يأتي عبر أحد المعارف يتحمل فقط تكاليف النقل، أما الذي يأتي للعمل عبر وكلاء، فيتكلف مبدئياً حوالى سبعة آلاف ليرة لبنانية أجر الوكيل. يكون مكان الإقامة داخل خيام بلاستيكية في أرض المستخدم، تعيش فيها الشغيلات إلى جانب أطفالهن. وبهذا يبقين بجوار مكان العمل حتى يلبين نداء العمل في أي وقت. ولهذا لا تُحدّد ساعات العمل، بل ينبّهن إلى أنه «في شغل بدو يخلص بهاليوم»، يوم قد تمتد ساعات العمل لـ12 ساعة متواصلة تحت الشمس اللاذعة.
عرض الأجر على العاملات قد يبدو مغرياً ظاهرياً، هذا بالنسبة لهن. فأجرهن هو ألف ليرة على الساعة، هذا غير إمكانية الاستفادة من محصول الأرض بقدر ما يردن، تماماً كما كان المزارعون سابقاً يقتطعون من محصول الإقطاع. بالطبع تعويض الأجر عبر الاستفادة من المنتجات المزروعة أمر وهمي، فمن يستطيع الاعتماد على نوع واحد من الخضار لإطعامه وأولاده لمدة تصل إلى سبعة أشهر؟
وضع الذكور بين العمالة الزراعية ليس أفضل بكثير من النساء. ربما الاختلاف يقع بين طبيعة العمل والأجر، إذ يتحمل العمال مهمات تشغيل الآلات والري. أيضاً لا يعملون بعدد ساعات محددة، فهي تنخفض في بعض الأيام إلى أربع ساعات فقط، بينما ترتفع في أيام أخرى لأربع عشرة ساعة، حسب كثافة العمل. حدد المستخدمون أجر الذكور بأربعمئة ألف ليرة شهرياً. وهنا، يتميّز الذكور بثبات الأجر، وبحوالى مئة ألف ليرة تزيد بها أجورهم عن أجور الإناث.
حسن أبو عيد، وهو اليوم وكيل شغيلة، كان قد بدأ حياته عاملاً مياوماً. عام 1982 استأجر 10 دونمات، والآن 400 دونم، يستخدم تقريباً 60 عاملاً. اختار أبو عيد، كغيره من المستخدمين، العمالة السورية لزراعة أرضه، فهي أرخص من اللبنانية، «فاللبنانيات لا يعملن بأقل من عشرة آلاف ليرة في ست ساعات». ويؤكد أن الانتقال للعلاج في سوريا يكون الإجراء الأغلب للعمال عند إصابتهم بمرض خطير، فالعلاج هناك أيضاً أرخص. لكن في الحالات العاجلة ربما يكون العلاج في مستشفى بعلبك، وفي كل الحالات يظل على نفقة العامل، إلا إذا كانت الإصابة نتيجة العمل. ربما يكون هذا العرف يضمن حداً أدنى من حقوق هؤلاء العمال، لكن في ظل غياب أية إجراءات وقائية أثناء العمل، تظل إمكانية الإصابة بأمراض تظهر لاحقاً محتملة. فالكوفية التي ترتديها العاملات، كما يرى أبو عيد، «ليست بغرض حمايتهن من المبيدات، فهذه قد اعتدن عليها، لكن للحفاظ على نضارة وجوههن من أشعة الشمس»، كما يقول بابتسامة ساخرة.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل هناك الكثير من الاعتبارات التي تتضافر لتحكم الحلقة المفرغة من كسب الرزق التي يتخبط في دوامتها هؤلاء العمال. أحدهم، وهو سوري الجنسية، يعمل في رعاية حظيرة للدجاج، يقول إن تعسّف المستخدمين والوكلاء قد يتطوّر في حالات عديدة إلى حدود عدم تسديد المستحقات. في تلك الحالات، يظل العمال أشهراً عدة في انتظار استلام الأجور، وعندما يضيق صدر صاحب بمطالبات العمال، قد يصل به الحد إلى يشهر السلاح في وجه المطالب. أما الشكوى لدى الأمن اللبناني، فهي لا تأتي، في هذه الحالة، بنتائج تذكر، إذ يتعاون رجال الأمن مع صاحب العمل، و«بدلاً من مطالبته بتسديد مستحقاتنا، يجد العامل نفسه مطالباً بالصبر». أما إذا سلك رجل الأمن الطريق الرسمي، فيظل العامل أيضاً هو المطالب، إذ يطلب منه تقديم بيّنات على عمله كعقد العمل أو شهود، وهو أمر صعب لأن العمال الزراعيين يعملون من دون عقود عمل.